للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولا يصارحون أنفسهم، ويصادقون الناس وهم أعداء لأنفسهم

وأظن أن في الاستطاعة أن يوضع برنامج متسلسل للتأمل كبرنامج القراءة والكتابة وتعلم اللغات وتعلم العلوم، يبدأ فيه بألف باء التأمل، وينتهي بيائه إن كان له ياء، وتخصص له حصص يومية كحصص المواد العلمية، وإن كانت حصصه تمتاز بأنها في ميسور كل إنسان، ليست تحتاج إلى مدرسة يتردد عليها، ولا إلى معلم يأجر، ولا أدوات وكتب يتداولها، وإنما هي من قبيل تربية النفس بالنفس - وليست تحتاج إلا إلى مران واعتياد وعرفان بكيفية السلوك

أول دروسها أن تخلو بنفسك، ولا يكون ذلك إلا في هدوء وسكون، وخير أن يكون في ظلام. ثم تجرد في هذه الحصة من شواغل الدنيا وهمومها؛ واستعرض نفسك من حيث بدنك كيف تؤذيه ببعض عاداتك؛ وهل تدبره تدبير عاقل حكيم، أو مستبد جاهل، وما خير الوسائل لإصلاح ما تقع فيه من أغلاط؟

وتدرج من هذا إلى التأمل في ناحية أخرى نحو علاقتك بعقلك، وعلاقتك بالناس واستعراض ما يكون منك ومنهم

وارق إلى خطوة ثالثة تسائل فيها نفسك، ما غايتك وما مبادئك في الحياة، وهل وضعت لها خططاً؟ وما مقدار تقدمك إليها أو تأخرك عنها؟

سيسلمك ذلك - من غير شك - إلى خطوات أوسع، وتأمل أعمق حسب جهدك واستعدادك؛ وستكون لك في النهاية فلسفة لا من جنس فلسفة أفلاطون وأرسطو، ولكنها فلسفة شخصية قد بينت على تأملك وشعورك لا على حفظك وقراءتك. وستتصل من هذا الطريق بأفق أوسع وملكوت أعلى

في الحديث: (الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا) ولعل هذا الضرب من التأمل ينبههم في حياتهم، من غير أن ينتظروا أن ينتبهوا بموتهم

ربما كان هذا ضرباً من التصوف يتفق وروح العصر، وإن شئت فقل إنه نوع من التصوف على أحدث طراز وأبدع نمط، يبعث على الحياة لا الموت، ويدعو إلى النشاط والعمل لا إلى الخمول والسأم، ولعل الإنسان يجد في الركون إليه بعض أوقاته راحة مما رمتنا به المدينة الحاضرة من عناء، وما أرهقتنا من عنت، ولعلنا نستروح من هذا

<<  <  ج:
ص:  >  >>