وما قضى أحد منها لبانته ... ولا انتهى أَرَبٌ إلا إلى أَرَبِ
والبيت الأخير يعبر عن سر التعلق بالحياة؛ فليس سر التعلق بها لسعادتها وكمال مسراتها، بل قد يتعلق بها أشد التعلق من قلت مسراته فيها، وإنما يكون الحرص عليها كلما وجد المرء سبيلاً لنشدان المطالب والمآرب حتى ولو لم يسعد بها. فالحرص على الحياة موجود ما دام المرء ينتشي فيها بالسعي والطلب، وإن لم يُؤَدِّ السعي إلى فوز وسعادة. ويستمر القارئ متابعاً للمتنبي في رحلته النفسية في عالم التجارب وآلامها كما في القصيدة التي يقول في مطلعها: (كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً). ويعاود وصفها في القصيدة التي مطلعها: (أود من الأيام ما لا توده) وفي القصيدة التي مطلعها: (فراق ومن فارقت غير مذمم) والتي يقول فيها:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدَّقَ ما يعتاده من توهم
وعادي مُحبِّيهِ بقول عداته ... وأصبح في ليل من الشك مظلم
ويعاود وصف آلامه وآماله وخيبته وتجاربه في قصيدة: (بما التعلل لا أهل ولا وطن). وفي قصيدة: (أغالب فيك الشوق والشوق أغلب). وفي قصيدة: (صحب الناس قبلنا ذا الزمانا). وهو يحس فيها بضآلة مطالب الحياة بالرغم من إقبال نفسه عليها فيقول:
ومراد النفوس أصغر من أَن ... تتَعادَى فيه وأَنْ تَتفانى
كل ما لم يكن من الصعب في الأن ... فس سهل فيها إذا هو كانا
وإذا لم يكن من الموت بدٌّ ... فمن العجز أن تكون جبانا
وتراه يصف كيف أن نفسه قد تُقهرُ على التخلق بصفات الحياة من مداهنة وشك، فيقول:
ولما صار ود الناس خبا ... جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن أصطفيه ... لعلمي أنه بعض الأنام
إلى أن يقول:
ولم أَرَ في عيوب الناس شيئاً ... كنقص القادرين على التمام
ويعود إلى وصف ما علمته الحياة من سوء الظن فيقول:
توهم القومُ أن العجز قرّبنا ... وفي التوهم ما يدعو إلى التهم
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة ... بين الرجال وإِن كانوا ذوي رحم