هوَّن على بصر ما شق منظرهُ ... فإنما يقظات العين كالحلم
ولا تشك إلى خلقٍ فتُشمته ... شكوى الجريح إلى الغربان والرخم
ثم هو بالرغم من شكواه يعرف أن للمعالي التي ينشدها ثمناً لا بد أن يؤديه فيقول:
تريدين لقيان المعالي رخيصة ... ولا بد دون الشهد من إبر النحل
ويعلم أنه من العبث أن يُعَنِّي المرء نفسه وأن تُعَنِّيه إذا لم تدرك ما تَمَنَّتْ فيسلى نفسه ويسلي القارئ معه بقوله:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
ويعلم أن الظلم في النفوس صفة عامة إذا خفيت فإنما تخفى لسبب فيقول:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم
والذل يظهر في الذليل مودة ... وأود منه لمن يود الأرقم
ومن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
وهذه الحكم العديدة وأمثالها في شعر المتنبي ليست من الشعر التعليمي أو الوعظي الذي يصنعه المرء وهو ناعم البال قرير العين بارد العاطفة وهو جالس إلى مكتبه يتأمل فيما تصف به الكتب والدفاتر أوجه الحياة وأخلاق النفوس فيها، ولكنه تأمل المختبر المجرب، فهو شعر التأمل الذي تغري به العاطفة لا شعر التأمل الذي يغري به العقل في دعته أو مباذله أو عند مباهاته بالعلم ومفاخرته بالعرفان، فهو شعر حكمة يُبصِّرُ الشاعر فيها نفسه ويذكِّرها كي تتحمل الحياة بمعرفتها الحياة، وتتحمل الناس بمعرفتها أخلاق الناس. ومن كان شديد الاعتداد بالنفس والاعتزاز بها كالمتنبي كان في حاجة إلى هذه التبصرة والتذكرة بسبب ما يجشم الشاعر نفسه من معاناة الحياة والناس معاناة فوق معاناة القنوع التي لابد منها. فهذا الاعتداد بالنفس بما يفيض به من حنكة وخبرة وأنغام وبيان وآلام وآمال، هو سر نبوغ المتنبي وسر شهرته وتعلق الناس بشعره كما ذكرنا، وهو سر قوة شعره. وهذه القوة هي فيض يغمر كل باب من أبواب شعره من مدح أو وصف أو عتاب أو رثاء. ومن أجل ذلك تبدو حكمة الحنكة في شعره مختلطة بالمدح أو العتاب أو الوصف أو الذم، ففي قصيدته التي يصف فيها الأسد ويقول:
في وحدة الرهبان إلا أنه ... لا يعرف التحريم والتحليلا