وأكد، أو ألتمس واختار، لأن الموضوع ماثل أمامي شهدته أمس فأثار في نفسي هذه العواطف، المختلفة، وبعث في قلبي هذه الألوان المتباينة من الشعور، وكان المتعمقون في البيان يسرفون على أنفسهم وعلى تلاميذهم وعلى الفن حين كانوا يجتنبون ما يحدث بين أيديهم من الحوادث، ويختلف عليهم وعلى أمثالهم من الخطوب، ويلتمسون الموضوعات من عند أنفسهم يخلقونها خلقاً، فيصيبون حيناً ويخطئون أحيانا، ويعيشون في عالم الخيال على كل حال، مع أنهم لو نظروا فيما حولهم من الأحياء والأشياء لما احتاجوا إلى هذا الكد والجد، ولما بعدوا بأنفسهم وتلاميذهم عن مواضع الحق والصدق والصواب، ولما نقلوا الأدبمن هذا العالم المعروف الذي يضطرب فيه إلا الوهم، ولما قطعوا الصلة بين الأدب الذي يجب أن يكون صورة الحياة وبين الناس الذين يجب أن يتخذوه مرآة يرون فيها أنفسهم وحياتهم كما هي أو كما يحبون أن تكون، أو كما يكرهون أن تكون قال الأستاذ: هات موضوعك ولا تمعن في الاستطراد، فقد علمت وقد أنبأتك بأني علمت أن أشهر الصيف لم تنسك دروس الربيع. قال التلميذ: فان الموضوع الذي شهدته أمس موضوع ويثير من المعاني ما لم تشأ، ويلهم ما أحببت من الخواطر ما لا تحب، يبعث الابتسام أن شئت أن تبتسم، ويبعث العبوس أن أحببت أن تعبس، وقد يكرهك على الابتسام وأنت عابس، وقد يكرهك على العبوس وأنت مبتسم، وقد لا يقف بك عند الابتسام، بل يغرقك في الضحك إغراقا، وقد لا يقف بك عند العبوس بل يدفعك إلى البكاء دفعاً، وقد يقفك من الابتسام والعبوس ومن الضحك والبكاء موقفا بين ذلك، فيه هدوء وعجب، وفيه رضى وسخط يضطربان في النفس ولا تظهر آثارهما على الوجه قال الأستاذ كفكف من هذا السيل اللفظي المتدفق، واقصد بنا إلى ما نريد. فقد علمت أن أشهر الصيف لم تنسك دروس الربيع في المعاني، وقد علمت أيضا إنها لم تنسك دروس الربيع في الألفاظ، وقد علمت أنك ما زلت قادراً على أن تجيد هذا الفن الذي يمكن الكاتب أو المتكلم من أن يقول فيطيل دون أن يؤدي معنى أو يدل على شيء. قال التلميذ: وكأنك تنكر هذا الفن أو تسخر منه أو تزعم أن جمال الكلام لا يأتي من الكلام نفسه، وأن الألفاظ ليست على حظ من الجمال الذاتي الذي يأتي من اتساقها والتآمها وانسجامها، قال الأستاذ: دعنا من كل هذا العبث واقصد بنا إلى ما نريد فقد نعود في يوم آخر إلى حديث الألفاظ والمعاني وما يجب