ذباب يترشف ألحانه من كؤوس الزهر البليلة المشرقة في مطالع الربيع ومجالي الطبيعة، كما يحدث أبو النجم عن روضته الأنف التي تعل ذبابها من أكاليل الزهر وريحانه
أُنفٌ ترى ذبابها تعللهْ ... من زهر الروض الذي يكللهْ
أما أنا وأنت يا صاحبي، فقذى أعيننا مواكب الذباب الأصيل يستثيرنا بطنينه الملح الموصول في غدونا ورواحنا. . . ذباب يصوغ أصواته من دم الأخلاق الهزيلة الضالة، ولا ينشط إلا في عتمة الليل ومتاهات الظلام حيث ترهف الآذان، وتنحط معاني الحيوان. . . ولا تثقل عليك فلسفتي هذه يا صاحبي، فقد ذكر الجاحظ:
(إن للذباب وقتاً يهيج لأكل الناس وعضهم وشرب دمائهم، وإنما يعرض هذا الذباب في البيوت عند قرب أيامها، فإن هلاكها يكون بعد ذلك وشيكاً)
قال صاحبي: بقى جانب غامض في موقفك من هذه المخلوقات المتواضعة الصغيرة أرجو أن تجلوه لي: لم ترصد أجواء هذه الحشرات عدا عليها أنفاسها؟ أتنطوي عوالمها على أسرار ومعجزات؟ قلت: ولست بمحص لك أسرارها، فهي وحدها بمزاجها ودقة تكوينها سر هذه الأسرار، ثم في تأملها اعترف بقدرة خالقها، ورياضة للنفوس الزارية بها، ولعل الجاحظ أيضاً يريحك فيمنحك ثقة بها تباعد بينها وبين احتقارك لها. . .
أوصيك أيها المستمع المصيخ، ألا تحقر شيئاً أبداً لصغر جثته. وإياك أن تسئ الظن بشيء من الحيوان لاضطراب الخلق ولتفاوت التركيب، ولأنه مشنوء في العين. . .
. . . ولعلك يا صاحبي تصدق أن الذباب لم يكن في أيام العبسي إلا ذباب الربيع الباكر البهيج، لا تكتحل العين به إلا في موسم وميعاد
وأما في أيامك، فهو كل ما تلقاه حيث أنت، عاكفاً بالليل، أو سارباً بالنهار.
كان في الزمن الأول يقتات نوافح الزهر، حيث لا يضطرب المجتمع بغير نوازع الحب والكبرياء الدافعة إلى خوض المضاجع والدماء، أسمعت العبسي ينشد:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها ... لمعت كبارق ثغرك المتبسم
هذا. . . كان مشغلة لفن الشعراء، في قمة الزمن الأول. . . كبرياء الحب الصحيح مجلبه لاشتباك الأسنة والسيوف، عمل النفوس في النفوس صفاء، ووفاء، ودماء