انهارت فيها قوى الدولة العثمانية، والتي تركت مصر فيها مفتحة الأبواب دون حماية حقيقية، نرى ثبتاً من الرحل الغربيين يفدون عليها في فترات متقاربة، ويدرسون أحوالها وشئونها بعناية ودقة؛ وكان جل هؤلاء الرحل من الفرنسيين والإنكليز؛ فهل كان مقدمهم إلى مصر في تلك الظروف أمراً عرضياً؟ وهل كانوا طلاب سياحة وثقافة ودرس فقط؟ أم كانوا طلائع الاستعمار الغربي المتوثب يومئذٍ، قدموا إلى مصر يجوسون خلالها ويتفقدون شئونها وأسرارها تمهيداً لمشاريع يجيش بها هذا الاستعمار؟ ويلوح لنا أن هذه الرحلات والدراسات المستفيضة لم تكن بريئة كل البراءة، ولم تكن بعيدة كل البعد عن وحي الاستعمار ومشاريعه؟ ولقد ألفى الاستعمار في هذه الدراسات كل ما يرغب في معرفته عن مصر وعن أحوالها الاقتصادية والسياسية وبالأخص عن قواها الدفاعية. وفي خاتمة القرن الثامن عشر دبر الاستعمار الأوربي أول مشاريعه لافتراس مصر، وجاء بونابرت إلى مصر تحدوه أحلام إمبراطورية عظيمة، كان يعتقد أنه يستطيع أن يتخذ مصر قاعدة لتحقيقها.
وكان في مقدمة الرحل الذين قدموا إلى مصر قبل الفتح الفرنسي بقليل رحالة ومستشرق فرنسي ترك لنا عن مصر في أواخر القرن الثامن عشر أثراً من أنفس الآثار وأقيمها، فإن الرحالة العلامة هو كلود إتيان سافاري الذي قدم إلى مصر في سنة ١٧٧٦، تحدوه أحلام مشرقية باهرة؛ وكان مولده في فتري سنة ١٧٥٠، ودرس دراسة جامعية حسنة في رون وباريس، وكان في السادسة والعشرين من عمره حينما اعتزم الرحلة إلى المشرق يجذبه بهاء المشرق وروعته؛ وقضى في مصر ثلاثة أعوام طاف خلالها أرجاء الديار المصرية من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، وزار جميع معالمها ومعاهدها وآثارها، ودرس جميع أحوالها وشئونها ومجتمعاتها، ودرس اللغة العربية والدين الإسلامي: ثم زار الجزر اليونانية، وعاد إلى فرنسا سنة ١٧٨١ بعد غيبة دامت خمسة أعوام؛ ووضع عن رحلته ودراساته في مصر طائفة من الرسائل المستفيضة ملأت ثلاث مجلدات، ونشرت بين سنتي ١٧٨٥ و ١٧٨٩؛ ثم نشر ترجمة حسنة للقرآن وأتبعها بكتاب في تفسير قواعد الدين الإسلامي تحت عنوان وترجم بعض قصص ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية، ووضع أجرومية للغة العربية والعامية ظهرت بعد وفاته. وتوفي في باريس سنة ١٧٨٨، وهو دون