ولما دنت من الصخرة نعش نفسها نسيمها، وشفاها مرآها وأحست بعد حياة (الحضارة. . .) في عاليه، أنها كالغريق يخرج من الماء وينشق الهواء، ونظرت إلى قصر فارس أفندي فلم تره إلا نقطة ضائعة في هذه السفوح التي تمتد وكأنها لا آخر لها حتى تتصل بالبحر ثم يصلها البحر بالسماء. . . فأحست أن قد صغر مكانه في قلبها كما صغر منظره في عينها، ولم تعد تذكر إلا أماسي الحب وليالي الوصل، عند هذه الصخرة التي قدسها الحب
ووجدت هاني قائماً، فأسرع إليها وأسرعت إليه، وألقت بنفسها بين ذراعيه، ما أحست وسخ ثيابه، ولا شمت قبح ريحه إذ لم يدع لها الهوى أنفاً يشم، ولا عيناً ترى. . .
وسكرت من رحيق الغرام، وخيل إليها السكر أن لها هذه الدنيا كلها التي تبصرها تحت قدميها، وأنها أسعد فتاة فيها. وأنها قد أمسكت بكفها الأماني، وقبضت على الأحلام. . .
فانتصبت والهواء ينثر الحرير الذهبي من شعرها، ومدت يديها وصاحت نشوى:
- املأ يدي من (أزهار الجبل)
فراح يقطفها ويملأ منها يديها.
وهبط الليل رفيقاً حانياً، فأحاطهما بذراعي أم حنون وردَّ عليهما كل همسة حب كان قد سمعها منذ مر على الدنيا، وكل وسوسة قبلة وطلع الهلال رقيقاً زاهياً فعرض عليهما كل مشهد غرام رآه منذ ولد القمر، وكل منظر هوى؛ فل يجدا في حديث الليل، وصور القمر، إلا تاريخهما هما، وقصة حبهما، وأفقر قصة في الحياة قصة الحب، فهي تتكرر دائماً بمشاهدها وفصولها، لا يتبدل فيها إلا أشخاص الممثلين.
قصة ألفها هذا الطفل الجبار فضاق به الخيال، وقعد به العجز، فلم يستطع خلال ألف قرن من الزمان، أن يزيد عليها شيئاً أو ينقص منها شيئاً، فهي تمثل في غابة بولونيا وفي مسارب هايدبارك كما كانت تمثل في مغامرات سرنديب، وكهوف بابل.
وهو أبداً يعبث بالمحب ويسيّره على هواه، ويضيق عليه دنياه حتى يجد صدر الحبيب يسند إليه رأسه أوسع من رحب الفضاء وأفسح من جو الأماني، ويسوّد عليه عيشه فلا يبيض إلا أن بدت فيه طلعة الحبيب، ويزهده في المجد والجد، فلا يجدّ إلا لوصوله إليه، ولا يرى مجده إلا في رضاه عنه. . . حتى إذا ملّ العبث، عاد فنام. . .
وعادت ليلى إلى القصر وقد نام الحب في صدرها كرة أخرى واستيقظت فيه شياطين اللهو