للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الروض في ميعة الضحى، وأن أسلوبه حلو الجرس والتقاسيم، ولكنا كنا نود أن نرى مع هذا كله الإحساس الذي هو الشعر. . . ودقة التصوير التي هي حقيقة الفن. . . وصلة التعبير بالعصر التي هي دليل الطبع. . . ولقد بادهت الجارم بك آيات الوحي ورسائله حقاً كما يقول، ولكنه ليس الوحي الذي يهبط من سماء الشعر على الشاعر الصافي القريحة، القوي الطبع، الذي يرى ويلمس من بدائع الوجود ما يحلم به الغير، والذي تنكشف له بواطن الأمور فتنطبع في ذهنه وتظهر في بيانه صوراً فنية رائعة؛ تبرزها الشاعرية فإذا هي أبرع وأملح من الأصل. . . وإذا هي جمال في جمال وحسن فوق حسن؛ وإنما هو الوحي الذي يهبط من العلم بالعربية والإحاطة بدواوين السابقين، فإذا ما قرأت شعر الجارم في الزفاف، أحسست كأنك تقرأ تشبيهات كانت صوراً لحياة بدوية خالية، وقد مضى بها الزمن وطواها التقدم الحديث؛ ولقد تحاول أن تلمح عنده شيئاً من روح العصر فيعيبك ذلك

ودونك الجارمية التي ادخرها الجارم ليوم وزارة المعارف في الاحتفاء بالزفاف، فصال بها وجال بين جدران (الأوبرا) الملكية، ونقلها المذياع إلى الناس ونقل معها إعجاب السامعين في تصفيقهم وهتافهم فاسمع له إذ يقول في مطلعها، والمطلع هو موطن البراعة كما يقول علماء البديع:

صفا ورده عذباً وطابت مناهله ... وجلت يد الدهر الذي عز نائله

وأقبل منقاد العنان مذللاً ... تطامن متناه ودانت صوائله

يطاطئ للفاروق رأساً وتنحني ... أمام سنا الملك المهيب كواهله

فهذا شعر - كما ترى - يملأ سمعك بقوة لفظه، ويخلب لبك برقة جرسه، ولكن انظر وتدبر. ألست معي على أن هذا المطلع إنما كان موضعه اللائق أن يكون في التهنئة بفتح أو أي أمر عظيم يعز إدراكه، وتبعد غايته، ويطلب بالمجاهدة والمغالبة حتى يصح لشاعرنا أن يقول (وجلت يد الدهر الذي عز نائله) وأن يكون على حق إذ يصفه بأنه أقبل منقاد العنان يطأطأ الرأس للفاروق؟ ثم ألست معي في استنكار هذه الصورة الغريبة (النافرة) التي اقتنصها خيال الجارم بك، وتحملها ذوقه وارتضاها تقديره، فقدم الدهر لسنا الملك المهيب يمشي على أربع، قد تطامن متناه، ودانت صوائله؟! لقد أنكر القدماء على الطائي قوله:

<<  <  ج:
ص:  >  >>