للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الشعراء العرب في أوربا ما لم يجدوه في آسيا من الأجواء المتغيرة والمناظر المختلفة والأمطار المتصلة والجبال المؤزرة بعميم النبت، والمروج المطرزة بألوان النور، فهذبوا الشعر وتأنقوا في ألفاظه ومعانيه، ونوعوا في أوزانه وقوافيه، ودبجوه تدبيج الزهر، وسلسلوه سلسلة النهر، وسلكوا به مسلك التنوع والتجديد. وهذا العامل هو الذي يخالف اليوم بين الأدب في مصر وبينه في الشام والعراق. فالطبيعة المصرية تكاد أن تكون نائمة: فالجو معتدل في جميع الفصول لا يكاد يختلف، وحقول الوادي الحبيب لا تعرى من الزهور والزروع، والسماء السافرة والصحراوان الوسيعتان لا تكاد مناظرهما تتغير. فإذا لم تكن طبيعة بلادنا نائمة فهي على الأقل مسالمة، لأنها لا تزعجنا بالزلازل العنيفة، ولا تهزنا بالعواصف الرعن، ولا تخزنا بالبرد القارس والحر اللافح، فطبعت أهلها على الوداعة والفكاهة والبشاشة والكسل والمحافظة على القديم من العادات والأخلاق والآداب فلا تتطور هذه الأمور في مصر إلا بمقدار. ولذلك تجد شعرنا منضد اللفظ جيد السبك بطيء التجدد هادئ الأسلوب لين العطف لا يأخذ الأمور إلا بالملاينة والرفق. بينما تجد الشعر في الشام شديد الحركة كثير التنوع سريع التجدد قلق الأساليب لتعدد المناظر واختلاف الصور وتقلب الطبيعة ونشاط الحياة. وهو في العراق قوي أبي ثائر ساخط متوثب منتشر على ألسنة الخاصة والعامة لالتهاب المخيلة وتوقد الشعور وصفاء الحس من إفراط الطبيعة في الحر والبرد وغلبة الحياة البدوية على كثرة السكان.

على أن هذا العامل قد أخذ يضعف منذ أواسط القرن الماضي لسهولة المواصلات وكثرة المخترعات وانتشار المدنية، فيستطيع الإنسان أن يعيش في آسيا وأفريقيا كما يعيش في أوربا، وسيزداد ضعفاً في المستقبل دون أن يمحي ويبيد.

ومنها (خصائص الجنس) فشعر العرب يختلف عن شعر اليونان في المذهب والخيال والغرض، وشعر ابنالرومي يختلف عن شعر ابن المعتز وقد نشأ في بلد واحد وعصر واحد، لأن الجنس الآري أميل إلى الاستقصاء والتفصيل والتحليل والتعمق، والجنس السامي لذكاء قلبه وحدة خاطره يفهم الشيء في لحظة، ثم يلخصه في لفظة، فهو أميل إلى التعميم والأجمال والبساطة. ومنها (دوام الحرب بين جنسين أو أمتين لفتح بلاد أو صد عاد أو تحرير وطن). فأن هذه الحروب تتمخض عادة عن أبطال ينمون في الخيال، ويعظمون

<<  <  ج:
ص:  >  >>