للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يد الفلاح فأصابها التلف والبوار، وإلا القصر وقد ضاقت جنباته بالفحش والمجون. . . القصر الذي يمرح فيه صغاره وهم ملائكة الأرض ينشرون عليها روح الجنة وطهارة السماء. ووقف الأب - ذات مرة - ينظر إلى بنيه وهم يتدافعون تحت ظلال شجرة في مرح لم ترهقه نوازع العيش ولا دنسته شواغل الحياة، فأصابه الضيق والأسى لأنه يوشك أن يلقي بهم - بحماقته وجهله - إلى هوة من الشقاء والذل.

ووجد الفتى مسَّ الحاجة فانطلق إلى أخيه الأكبر يستعينه على أمره ريثما يجمع غلات أرضه. وضحك الأخ الأكبر في شماتة حين وجد الفرصة سانحة فانحط على أخيه يقذع له في القول ويقسو عليه في اللوم ويعنف في الحديث، ثم قال (ورفاقك. . . رفاق السوء؟ إلا تنظر أيهم يستطيع أن يسد الثغرة في الشدة، أو يرأب الصدع عند اليأس، بعد إذ استنزفوا كل وفرك في التافه الوضيع؟ أما أنا فلا أستطيع لأن لي أولادا هم أحق منك بمالي وجهدي) فانفلت الفتى من لدن أخيه وهو يتعثر في الضيق ويجرر أذيال الخيبة. وغاظه أن يلقى من أخيه الأكبر الاحتقار والمهانة، وأن يحس فيه القسوة والعنف، وأن يخرج من داره تصفعه لاذعات الإخفاق والحرمان، فانطوى على أشجانه يدير الرأي ويقلب الفكرة: لقد أفاق من سكرات اللذة فما وجد صحابه، وصحا من غفوة النشوة فما وجد ماله. ونازعته نفسه إلى أن يستعين ببعض أهله ليصلح من شأنه أو يقيم من عوجعه، ولكن كلمات أخيه كانت ما تبرح ترن في مسمعيه فتدفعه عن أن ينشر ضعفه على عيني واحد من الناس خشية أن يناله الأذى أو أن تصيبه المهانة فأمسك على مضض وهم. وغبر ساعات يضطرب في لجة من الهواجس لا يهدأ ولا يستقر ولا يهتدي إلى حيلة ثم انفرجت ظلمات الحيرة عن قبس من هدى فعقد العزم على رأي.

وعلى حين غفلة من أهله انطلق إلى الإسكندرية.

وألقى الفتى بنفسه وأفدنته في خضم المضاربات المالية وهو يرى الهاوية أمامه تكاد تبتلعه فيقبل عليها في غير فزع ولا تردد. لقد سلبه اليأس الأناة والصبر يوم أن تراءت له فرجات الحياة تنسد أمام ناظريه، يوم أن لمس الجفوة والغلظة في حديث أخيه الأكبر وقد كان يطمع أن يجد فيه العون والساعد، فعزم على أن يختار لنفسه، وما في المضاربات المالية إلا الثراء العريض أو المتربة القاسية.

<<  <  ج:
ص:  >  >>