وهناك في الإسكندرية، ابتسمت الحياة للفتى وتألق نجمه وسما حظه، فأصاب من الثراء والغنى في سنة واحدة ما يعجز غيره عن أن يناله في سنوات، فطابت نفسه وهدأت جائشته. ثم أخذ الحنين يعاوده إلى القرية، إلى الأهل، إلى الرفاق! فطار إلى القرية ليعيش على نمط الصالحين يسكن إلى الراحة ويطمئن إلى الهدوء وينعم بالسعادة في الأسرة بين الزوجة والولد والأهل، لا تحدثه نفسه بنزوات العبث وقد قاسى مغبته، ولا يدفعه قلبه إلى الطيش وقد ذاق مرارته.
وتلقاه أخوه الأكبر - أول ما جاء إلى القرية - في بشر وسرور! يعانقه في شوق: ويقبله في حرارة، ويحدثه في شغف، ويستغفره عن زلته بقوله (لا تؤاخذني - يا أخي - بما فعلت ولا ترهقني من أمري عسراً، فما كان يخيل إلي أن كلماتي وهي هينة لينة ستفزعك عن دارك وأهلك ووطنك، وما كنت أطمع بحديثي إلا أن أردك عن هاوية توشك أن تتردى في قرارها بين رفاق لا كرم فيهم ولا شهامة) وأغضى الفتى عن حديث أخيه الأكبر فعاشا معا في رضى وطمأنينة.
ترى ماذا دهى الرجل الذي طرد أخاه الأصغر من داره أحوج ما يكون إليه فهو يقبل عليه في حب وشغف؟ هل استحالت حاله وانقلبت خواطره فندم على زلته فجاء يستغفر أخاه الأصغر وقد فات الأوان؟ أم هو قد أكبر فيه الهمة والنشاط حين عاد منصوراً مظفراً؟ أم هو المال يبهر العقول الضعيفة ويستلب الأحلام الوضيعة فتجلّه وتحترمه لأنه هو. . . هو المال؟
وانطوت السنون فإذا الفتى الطائش رجل فيه الرجولة والإنسانية، وفيه الكرم والشهامة، وفيه المروءة والسخاء. وإذا صغاره فتيان ملء البصر والسمع والقلب جميعاً تتوثب فيهم فوره الحياة والقوة وتتألق فيهم لمعان الذكاء والعقل، وإذا ماله يربو ويزداد فيكفل لهم جميعاً الجاه والسلطان ويحبوهم بالرفاهية والخفض.
ودأب الرجل على أن يختلس في كل سنة شهراً يقضيه في الإسكندرية، يفر - كزعمه - من مضطرب الحياة وشاغلها إلى هدوء الوحدة وراحتها. ولكنه - في الحق - كان يهرع إلى البورصة ليشبع رغبة نفسه في المضاربات المالية، ما يستطيع أن يصرف نفسه عنها بعد أن ذاق حلاوة الكسب ولذة الثراء.