للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهو يرجع إلى أهله في القرية - كل مرة - طلق المحيه بادي البشر، تكسوه ثياب الصحة والعافية، وترتسم عليه علامات النشاط والقوة! لا يشغله الربح ولا تؤرّقه الخسارة.

ما لهذا الرجل يفزع من الإسكندرية - في هذه السنة - بعد أيام قلائل ليرجع إلى القرية مشتت الذهن مقطب الجبين، ينطوي على نفسه في صمت وسكون، لا يطمئن إلى رفيق ولا يهدأ إلى صاحب ولا يتحدث إلى صديق؟ وتلقفته الألسن والأبصار، وحامت حوله الشائعات: ماذا كان هناك في الإسكندرية؟ لعل حادثة عصفت بآثار المرح في نفسه، أو لعل نكبة نزلت فأطاحت بالبشر في قلبه! وحار الناس في أمره وهو في صمت، ومن حوله رجال لا يجد واحد الجرأة على أن يزيح الستار عن خبيئة نفسه.

الآن برح الخفاء، فهذا هو المحضر جاء ليوقع الحجز على كل ما يملك الرجل إلا صبابة لا تشفي غلة ولا تنقع صدى، حتى القصر الذي يعتز به ويوليه كل عنايته واهتمامه. وارتسمت على الشفاه ابتسامة التشفي والشماتة، ولاكت الألسن كلمات السخرية والاستهزاء، وقال واحد من الناس (من عسى أن يكون المحظوظ الذي يشتري أملاك الرجل الثري؟) وانبرى الأخ الأكبر يساوم الرجل لينقذه من براثن الدين ويستولي هو على أطيانه وقصره فلم يجد الرجل بداً من أن يلقي السلم فباع كل أملاكه بالثمن البخس.

وأرغمت الفاقة ربيب العز والثراء أن يسكن دارا وضيعة في ناحية قذرة من القرية، وأن يعمل طول يومه ليكسب قوته وقوت عياله على حين أغلق الأخ الأكبر من دونه باب داره، وأن ينزع أبناؤه من المدرسة ليجد فيهم من يشد أزره ويعينه على لأواء الحياة وشظف العيش. ولكن الابن الأكبر أبى أن يخضع لنزوة أبيه فراح يناقشه في حدة، وأراد أن ينطلق إلى عمه يرجوه أن يعينه على إتمام دراسته لقاء دين يسدده بعد أن يتخرج في الجامعة. ورفض الأب أن يستسلم لرأي ابنه الشاب. . . رفض أن يستخذى في إصرار وعناد. واحتدم النقاش بين الأب وابنه فثارت ثائرة الأب فلطم ابنه لطمة طار لها صواب الشاب فما شعر إلا وهو يهوي على خد أبيه بلطمة قاسية ثم يطير إلى عمه يستجديه.

وطفرت من عين الأب المنكود عبرة حرّى تحمل كل معاني الذل والشقاء.

وفي الصباح فزع الناس إلى الدار الوضيعة. . . دار ربيب العز والثراء ليروا الرجل ملقى في ناحية ينزف دمه آخر قطرة من الترفع، تنهمر من شريان في يده مزقته كبرياء لم

<<  <  ج:
ص:  >  >>