للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وأما عن الأمر الثاني فإنه لما بويع علي بالخلافة طالبه طلحة ابن عبيد الله والزبير بن العوام ومعاوية بن أبي سفيان وعائشة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم بدم عثمان، ولكنهم لم يطلبوا ذلك بالطرق السلمية المشروعة في القضايا، بل ذهب طلحة والزبير في عدة من الصحابة إلى علي فقالوا له: يا علي، إنا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإن هؤلاء القوم قد اشتركوا في دم هذا الرجل، واحلوا بأنفسهم.

فقال لهم علي: يا أخوتاه، إني لست اجهل ما تعلمون، ولكن كيف اصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟ ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت إليهم إعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعا لقدرة على شيء مما تريدون؟

قالوا: لا

فقال لهم: إن الناس من هذا الأمر إن حرك على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا، حتى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق، فاهدؤوا عني، وانظروا ماذا يأتيكم؟ ثم عودوا.

ولا شك إنها كانت فتنة جامحة، وقد اشترك فيها ألوف من الناس، فلا بد من التريث في أمرها كما رأى علي، ولا سيما أنه لم يعلم من قام منهم بقتل عثمان، حين يتعين فيه القصاص، ويؤخذ دمه بدمه، ثم يحكم على من عداه بقدر تبعته في ذلك الفتنة، وقد كانوا من الكثرة بحيث يجهل أكثرهم، ولا يمكن تمييزهم إلا بعد مضي زمن يكفي لتمييزهم.

ولكن هذا لم يرض طلحة ولا زبير ولا معاوية ولا عائشة، فنادوا بالحرب، وانتقل الأمر بذلك من قضية يجب أن تؤخذ بالسلم كما تؤخذ سائر القضايا إلى حرب مفاسدها أكثر مما يرونه مفسدة، فقابلهم علي حربا بحرب، وجرى الأمر بينهم في ذلك إلى قتل طلحة والزبير وعلي، وآل أمر المسلمين بعدهم إلى معاوية.

وأما عن الأمر الثالث، فإن معاوية لما آل الأمر إليه لم يعد النظر في قضية عثمان، ولا شك أنه وجد نفسه أمام جناية قتل لا يعلم القاتل فيها بيقين، فلا يمكنه أن يأخذ أحداً فيها بقصاص، كما وجد نفسه أمام كلمة قد اجتمعت، واردات أن تنسى الماضي بما له وما عليه، لتأسو الجروح، وتقضى الفتن، فيجتمع الشمل، ويعود المسلمون أخوانا، ويتموا ما بدأ به السلف الصالح من الفتوح، ويعملوا متعاونين على إعلاء كلمة الإسلام.

<<  <  ج:
ص:  >  >>