ولم يغب عن العالم مع ذلك ما هنالك من وراء ستار، فقد فطن العالم إلى أن عصبة الأمم لم تكن في عملها مستقلة ولا مختارة، وإنها كانت مسيرة موجهة فيما اتخذت من قرارات جريئة؛ ولم يغب عن العالم أن السياسة البريطانية هي مبعث التوجيه والوحي الأول، وأنها اتخذت هذه الخطة لأن الاعتداء الإيطالي على الحبشة، وتوسيع النفوذ الإيطالي في شرقي إفريقية، وما يترتب على ذلك من إذكاء الروح الحربي الفاشستي، يعرض الإمبراطورية البريطانية وسلامة مواصلاتها في البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط وسيادتها في وادي النيل وشرق إفريقية إلى أخطار جسيمة، وأن إنكلترا لم تحرك أساطيلها الضخمة، وتتخذ هذه الأهبات الحربية الواسعة النطاق في مصر وعدن وشرق إفريقية انتصارا لقضية الحبشة أو دفاعاً عنها، ولكن رداً للخطر الفاشستي الذي ظهر في الأفق فجأة، وأخذ يزعجها بمطامعه وتحديده. بيد أن وقوف العالم على هذه العوامل المستترة الظاهرة معاً، لم يثنه عن التصفيق لعصبة الأمم والإعجاب بموقفها وتصرفاتها في هذا المأزق العصيب؛ ذلك أن الوسائل لاتهم دائماً؛ وكفى أن عصبة الأمم قد انتهت إلى الغاية المقصودة، وسيقت إلى العمل لصون الحريات والحقوق القومية، وإلى الحكم على الاعتداء المنظم بأقسى الأحكام.
ولهذا دهش العالم أيما دهشة حينما أذيعت شروط هذا المشروع الشائن الذي أسفرت عنه المفاوضات الفرنسية البريطانية الأخيرة كتسوية سلمية للمسألة الحبشية، والذي أريد أن يقدم إلى إيطاليا هدية سابغة على اعتدائها المثير لكي تكف عن المضي في أعمالها ومشاريعها الحربية. وقد وقف القراء على هذا المشروع وتطوراته فلا حاجة بنا إلى الإفاضة فيه، ويكفي أن نذكر أنه كان يقوم على تمزيق الحبشة تمزيقاً شائناً، وينص على منح أكثر من نصفها لإيطاليا، ويحيط سيادة الحبشة على الأراضي الباقية بقيود خطرة أو هو بعبارة أخرى يقضي بشقيه على الحبشة كأمة مستقلة ذات وجود، ويمهد لاستبعادها النهائي في أعوام قليلة؛ نقول ثار العالم كله لهذا المشروع الشائن الذي يتوج اعتداء إيطاليا بغار ظفر لم تحرزه، ويحقق لها حلماً مازالت تتخبط في غمر الصعاب لتحقيق شطراً منه؛ وأشد ما كانت دهشة العالم لأن السياسة البريطانية التي ثارت من قبل لاعتداء إيطاليا وألبت عليها أمم العالم بواسطة عصبة الأمم وحملت العصبة على أن تقرر العقوبات