الزمان، على حين أن العنب نفسه لا يصلح للبقاء، فكذلك النفس إذا تجردت من مادتها الفاسدة ونزعت إلى الكمال صلحت للبقاء، ولم يعتروها فناء، وكلما مرت عليها السنون والأعوام زادت نقاء، ورقت صفاء.
وهكذا ولّد الصوفية من كل شيء أشياء، ورأوا في كل مادة رمزاً لمعان لا عداد لها وبني آخرهم على ما أتى به أولهم ونظروا إلى الدين نظرهم إلى كل ما في العالم، فكل آية في القرآن رمزا، وكل حديث له تأويل. فليسوا يفهمون من الآيات ما يفهم الناس، ولا من الأحداث ما يفهم الناس.
إن شئت مثلاً لذلك فخذ ما فهموا من حادثة شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم، فعلماء السيرة يروون أنه (ص) شُق قلبه وهو مع رابّته ومرضعته في بني سعد، وأنه جيء بطست من ذهب فيه ثلج فغسل به قلبه إلى آخر مارووا؛ والصوفية لا يفهمون هذا إلا على أنه رمز، فقلب الإنسان قد ران عليه الخوف والشهوة والطمع وغير ذلك من السيئات، فأراد الله أن يذهب عنه الرجس ويطهره تطهيراً، فأبعد عنه ما غشى قلوب الناس، وفتح قلبه ونقاه من كل سوء حتى يستعد للنبوة. فرويت هذه القصة وفهمها العامة حقيقة، وفهمها الخاصة رمزاً.
وهكذا كان شأنهم فيما عرض عليهم من العالم ومن الدين ومن الأدب؛ وهكذا كان شأنهم فيما أنتجوا من دين وأدب - عاشوا في حلم لذيذ من حب وتضحية، ونعموا بما قرءوا في العالم من رموز، وأخذوا أدب الأدباء وشعر الشعراء فنقلوه إلى أحوالهم ومقاماتهم، فطربوا لشعر مجنون ليلى وأبي نواس وفسروه بليلاهم وخمرهم، فلما شعروا هم أسبغوا على شعرهم من معانيهم ورموزهم، فكان لنا من ذلك كله نوع من الأدب طريف. أرجو أن أعرض لتفصيله في مقال تال.