للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أمامه عالم غريب الأطوار مملوء بالجمال، مفعم بالتخيلات، حتى كأن كل شيء - ولو كان صغيراً - كتاب ملئ علماً، أو لسان ينطق دائماً بالحكمة، هو في العالم دائماً يقرأ ولا مقروء، ويسمع ولا مسموع، ويستخرج من الحبة قبة، ومن القطرة بحراً خضماً. يقرأ في كل حادثة نفسه وعالمه وربه، ويفسرها تفسيراً يتفق ومزاجه وحاله.

وهذا الأدب الرمزي والدين الرمزي والحكمة الرمزية نزعة كانت في الإنسان منذ القدم، فالديانة المصرية القديمة مملوءة بالرموز الدينية، وكذلك ديانة الهنود والفرس الأقدمين، ترمز إلى الحقيقة في بعد وخفاء؛ والميثولوجيا اليونانية ليست إلا رموزاً لما كانوا يرون من حقائق؛ وكثير من شعائر الأديان إنما وضعها فلاسفة متصوفون رمزوا بها إلى بعض الحقائق. فأتى العامة الجهلة، وظنوا نفس الرموز حقائق؛ فما الأصنام ولا النجوم ولا نقوش المصريين في عباداتهم ولا كثير غيرها إلا رموز أتى عليها الزمن فنسى أصلها وعبدت ذواتها، وجرى كثير من الفلاسفة على هذا النحو فيحكى عن فيثاغورس اليوناني أنه كان يكثر من الكلام الرمزي ليدل به على الحقيقة، وكذلك كان من بعده أفلوطن.

ولهذا الأدب الرمزي جماله، فهو يمتاز بأنه جمال مقنع تدركه ولاتلمسه، وتتخيله ولا يسمح لك أن تحدق فيه، فهو جمال تنظره وكأنك لاتنظره، وتسمعه وكأنك لاتسمعه، وتعرفه وكأنك لاتعرفه، قد خلع عليه الخفاء جلالاً فكان جميلاً جليلاً معاً - تسمعه فتلتذ له وتترنم به، فإذا أردت أن تقبض عليه قبضت على هواء؛ ليس لكلماته مدلول محدود، ولا لمعانيه حدود، وإنما هو إمعان في اللانهاية، وسبْح ولا غاية.

يرى الصوفي أن لكل ظاهر باطناً، وفي كل شيء إشارة، وفوق السطح عمقاً، ووراء القناع جمالاً فاتناً؛ ويتيه عجباً على الناس إذ فهم ولم يفهموا، وغنى لهم ولم يطربوا، ويرى أن العقل حجاب يحجب النفس عن إدراك الجمال، وأن كشف هذا القناع إنما هو بالذوق والألهام، لا بالمنطق والقضايا والأحكام.

وبهذا النظر نظر الصوفي إلى العالم فسمى الحقيقة ليلى وسعدي، وأعجب بالخمر وتغنى بها، ورأى في الخمر معاني ليست في غيرها. فهي رمز إلى رقي النفس وتساميها، فالنفس ترقى بالفناء في الحقيقة كما تنشأ الخمر بفناء العنب، فيكون شيء من شيء، ويختلف الشيئان والأصل واحد؛ وإذا خرجت الخمر من العنب بقيت إلى الأبد وصلحت بمرور

<<  <  ج:
ص:  >  >>