العربي القح لم يكن يفهمها في معاني النحاة. وهكذا الشأن في البلاغة والعروض والفلسفة - غير أن هناك فرقاً كبيراً بين المتصوفة وغيرهم، فالأوضاع النحوية والصرفية والبلاغية لها مدلولات ترجع إلى العقل في تفهمها، أما المصطلحات الصوفية فلا ترجع إلى العقل، وإنما ترجع إلى الذوق، ولهذا لا يفهمها أحد بعقله فهماً صحيحاً؛ إنما يفهمها من تذوقها ووقف في المقام الذي يقف فيه المتصوف؛ والفرق بين العاقل والمتذوق كالفرق بين شخصين أحدهما لم يذق الكمثرى قط فوصفت له وصفاً لفظياً علمياً، وشخص ذاقها وعرف الفروق الدقيقة بين مذاقها ومذاق الموز والتفاح؛ فأستعمل شعراء الصوفية ألفاظ الشعراء الخليعين من (ليلى) و (الخمر) والوصل والعناق والهجر والعذال، واتخذوها رموزا لأحوالهم ومقاماتهم؛ وكان لهم من ذلك كله أدب رمزي بديع غريب يمتاز عن غيره من الأدب بروحانيته وصفائه، كما يمتاز بغموضه وخفائه.
والسبب في الغموض والخفاء أن الشاعر المادي إذا وصف خمراً أو لوعة حب أو هجراً أو وصالاً، فإنما يصف عواطف يدركها الناس وهي في منالهم، أو بعبارة أخرى هي قدر مشترك بينهم؛ فكل الناس أحب، وكل ذاق لذة الوصل وألم الهجر؛ أما الصوفي فيعبر عن مقام يقفه وحال غلبت عليه، فوصف مقامه وحاله بحيث لا يفهمه إلا من كان في موقفه وحاله، أو كان قد قطع هذه المرحلة إلى مرحلة أبعد منها مدى. ومن أجل هذا لا يفهم الصوفي إلا الصوفي، بل قد لا يفهم الصوفي الصوفي إذا سلك كل منهما مسلكاً خاصاً، أو كان الصوفي الشاعر في مقام بعيد عن مقام الأول؛ ومن أجل هذا شرح بعضهم قصائد لبعض المتصوفة، فكان الشرح غامضاً كالأصل. وصاحب القصيدة معذور كل العذر، لأنه في حال لا يجد فيها ألفاظاً تعبر عما في نفسه في وضوح وجلاء؛ وهناك سبب آخر قد يدعو إلى الغموض، وهو أنه في حال لو أوضح ما في نفسه لرماه من لم يفهمه بالكفر والإلحاد.
على كل حال يمتاز الأدب الصوفي بأنه أدب رموز من ناحيتيه القابلة والفاعلة، فهو يفهم مظاهر العالم على أنها رمز؛ والعالم عنده لا يختلف عن أحلام النائم؛ فكما أن الحلم يعرض حوادثه عرضاً رمزياً فكذلك العالم كل ما فيه رمز، فكل ما يقع تحت عينه وما يسمع بأذنه، وما يتصل بجميع حواسه رموز يستنتج منها ما يغذي عواطفه ومشاعره، وبذلك أنفتح