فهذه رقاع من الأرض ضيقة الشقة قليلة الموارد صخرية التربة يتمتع أهلوها بأطايب الحضارة وملذاتها؛ وأخرى بلاد غنية تدر الذهب، وتخصب الشهد، ومع ذلك فهي فقيرة يعيش أهلوها جياعاً حفاة شبه عراة!! وثمة شعوب تابعة ومتبوعة. صور عجيبة متناقضة تنتظم سلك الحضارة، ومع ذلك يأسفون لوقوع الحرب! ويندبون حظ الحضارة الآفلة!!. . .
هذه هي الحياة كما رأيتها على وميض الفكر الواعي: خداع وطمع، وسيادة واستعباد، ترف وحرمان، ضحكات ودموع؛ وحشية عارية تستتر وراء الفكرة الخبيثة التي يسمونها بالحرية! فأنتفع من هذا كله بشيء واحد، برعت المدينة في إبداعه من حيث أخفقت في كل شيء. ذلك هو المظهر الخلاب على الجوهر الرخيص المبتذل. وكأن اللذين فتنتهم هذه المدينة نسوا أن الظاهر تعيش حيناً ثم يعروها التلف والفناء، أما الجوهر فيبقى دائماً كما هو. . .
كانت الشمس تحتضر عند حافة الأفق البعيد، لما أشرقت أفكاري بهذه الصورة الغاربة. وكنت قد أسلمت نفسي لصديقي أتبع خطواته كطفل وديع مطيع، لا أعترض ولا أستفسر عن شيء، حتى أستقر بنا المطاف على متكأ عند شاطئ البحر نشاهد هذا الصراع العنيف بين عناصر الطبيعة، وتتابع تطوراته باهتمام بالغ. فرأينا الشمس الغاربة مكفهرة الوجه، تسيل منها العبرات شعاعاً مخنوقاً يتساقط على مياه البحر، فيصبغها بلونه الأرجواني الحزين. وهناك في الجانب الآخر من الأفق، كانت طلائع الليل الزاحف تتواثب هنا وهناك ملقية ظلالها الكئيبة على الأحياء، والبحر واجم يتلقى أنفاس الشمس اللاهثة بحنان وصمت غريبين. أما الطيور فكانت جازعة، كأم روعها الخطر على وليدها، فهي تروح وتغدو مولولة صارخة تستنجد ولا مغيث! حتى إذا هجم الليل هجومه الأخير، ارتعش النور، واضطربت الشمس، ثم أسلمت نفسها للمغيب. . .
سقطت الشمس الغاربة في هوة المغيب، فأحسس برجة عنيفة تسلبني اليقظة، وتتركني إنساناً بلا وعي. كنت - في الحقيقة - جسماً ملقى على الجدار الصخري القائم عند التقاء اليابسة بالبحر، لا يحس ولا يتأثر بما حوله، فإن بدت منه التفاته إلى هنا أو هناك، فهي بلا شك نظرات لا معنى لها، كتلك التي تصدر عادة من ذوي الأفكار الشاردة. آه، لقد