للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقلما يتزحزح من متكئه، فإلى جانبه إناء الماء البارد وأمامه معدّات القهوة العربية ويرتفع قريباً منه رف مصنوع من أعواد غير متناسقة يحمل أكواماً من المخطوطات عبث البلى بأكثرها. فهذه كتب يدعوها أسفار الحكمة، وتلك وريقات يزعم أنها تضاهي صحف موسى، ولماذا؟ فهي اتصلت به من جامع قرطبة بواسطة المغاربة الجوّابين.

وذلك كتيب يقول إنه توارثه عن آبائه الأقدمين وهو يقسم أن القلم الذي بين أصابعه مضي عليه زهاء ثلاثين عاماً لم يبره مرة ثانية بل زامله في عزلته طيلة هذه السنين في حالته الراهنة. وهو يجري عليه رزقاً متواصلاً، إنه رائد الخير، به يكتب الرقي للبدو ويحبر الرسائل الخاصة ويثبت به كل ما اختُزن في المغار، وهو لم ير سبباً لتجهيز هذا المغار بباب يحول دون سرقة ما احتواه من سمن وحبوب وصوف ائتمنه عليها البدو مقابل جعل خاص.

وهؤلاء البدو تغمرهم الطهارة. هكذا يوجه كلامه إلى أخي لأنهم لا يسألونه عن زيادة أو نقصان في أماناتهم ولا يأخذون بها مستنداً منه. وهم إذ ينسابون مع مواشيهم في عرض الصحراء طلباً للكلأ والماء ويمنعون في توغّلهم بأطرافها المترامية يرسلون قوافل تمدهم بالمؤونة مما ادّخروه واختزنوه عنده.

وما يدرّه عليه القلم إذا أضيف إلى هذا الجعل عن الخزين هي الثروة التي يقنع بها ويحرص على الشكران عليها.

واندفع يسرد علينا اطمئنانه إلى عيشه ووجهه يطفح إيناساً وملامحه تفيض بشراً وهناء واعتدل في متكّئه كمن يحاول أن يحاضر في موضوع فكرر الشكر لله إذ هيّأ له حياة وادعة ويقول: لم لا أكون مرتاحاً وهذا رزقي يأتيني رغداً، وهذه عنيزاتي تدر علينا حليبها، ولنا دجاجات تغذينا ببيضها، ونستقي ماءنا عذباً بارداً من البئر القريبة لمنزلنا؟

أما زوجي فهي تشاطرني هذا العناء وهي وأنا عجوزان طال بنا انتظار الموت وهو إذ يغشانا أحدنا أو كلينا ألفانا على أهبة للقاء الله

يا ولدي (يخاطب أخي) إذا حان وقت الصلاة انزوي إلى محرابي هذا، وإذا شعرت بالسأم فها هي ذي كتبي. إنها تحوي كل شيء. إنها عندي بمثابة عالم كامل

وأزيدك اطمئناناً عليّ بأنني لم أشك مرضاً ولم ألقى ولم أتعرف قط إلى رجل السراي في

<<  <  ج:
ص:  >  >>