إلى الشوارع والميادين، فظنهم الحراس والعسس (متظاهرين) فطاردوهم بالعصيِّ مطاردة الجراد، فهاموا في الشارع من الذعر هيام القطيع حتى وجدوا قصراً من قصور الأمراء، غريقاً في الأضواء والضوضاء، فلم يتمالكوا أن تدفقوا فيه من أبوابه، على الرغم من دفاع حراسه وحجَّابه. ثم انساب هذا الجمع الفزِع في حديقة القصر الأفيح حتى أحدقوا ببؤرة الضوء، ثم أخذوا يستفيقون من الذهول والرعب على شذا العطور وسطوع النور ونغم الموسيقى، واستطاعوا أن ينظروا فماذا رأوا؟ رأوا حفلة راقصة تحت السماء على بِرْكة الحديقة الواسعة، وأربابُ النعمة وربات النعيم متقابلون على الأرائك، أو متعانقون على الأعشاب، أو متخاصرون في المرقص، أو متنادمون حول المقصف؛ وشموس الكهرباء تسطَع على الظهور البلورية والصدور العاجية وقد انشقت أطواق الفساتين من أمام ومن خَلف إلى تحت الخصور فلم يمسك الثوب عن النزول إلا شريطان على الكتفين رُصعا بالماس وعُقدا بالذهب. وكان الجو البليل مشبعاً بريَّا العطر وعبَق الخمر وأنفاس الغواني وشدْو القيان وهزج المزامير وعزف الاوتار، فلا يدخل فيه ذو حسٍّ إلا هاج واشتهى، ولا ذو وقار إلا عبث والتهى. وكانت البِرْكة المسجورة بماء الورد واللاوندة تموج بالحور والولدان سابحين أو متشابكين، يتواثبون من النشوة، ويتجاذبون من الشهوة؛ وعلى حِفافيها المرمريين يتراقص القوم أزواجاً على أنغام (الجاز) والسواعد ملتفة على القدود، والشفاه مُطبَقة فوق الخدود، والأثداء رجراجة بين الصدور والنحور، والأنظار جوّالة بين البطون والظهور؛ وفوق نافورتها الوسيعة البديعة ترقص حول رشاشها الطائر الوهاج جوقة من عرائس عبقر، في غلائل عسجدية من نسج الجن، وأوشحة مصبغة من صنع السحرة. وكلما ماست الحوريات الرواقص تقلَّب عليهن الوشى، واختلف فوقهن اللون، وانبثق عنهن شعاع من الفتنة يبهر العيون ويضل الأفئدة!
كان القوم في سورة اللهو وسكرة اللذة وحميا الطرب حين أحاط بهم مساكين بولاق في بزتهم الزريَّة وهيئتهم المخيفة؛ فانفغرت أفواه هؤلاء من الدهش، وقَفَّت رؤوس أولئك من الخوف، والتقى الشقاء والسعادة وجهاً لوجه!
ولكن الله لم يشأ أن يصطرع الغني والفقير في هذه اللحظة الرهيبة فرأيت أفواجاً من البق والبراغيث لها أجنحة كالفَراش وخراطيم كالبعوض قد خرجت من ثياب الفقراء وأخذت