والثامنة عشرة من عمره علوم الدين والدنيا، وفنون اللسان والعقل، على منهاج محيط شامل؛ وانه حذق في مراحل حياته ومواطن رحلاته اللغات العربية والأردية والفارسية والتركية والفرنسية، وألم بالإنجليزية والروسية، فاتصل منها بثقافة الشرق والغرب في القديم والحديث؛ وانه طوّف ما شاء الله أن يطوّف في أقطار الهند وإيران والحجاز ومصر وتركيا وإنكلترا وفرنسا وروسيا، فازداد بصرا بأحوال الدول وأخلاق الشعوب؛ وأن موقع أفغانستان بين الهند وإيران أمكنه من أن يرى ميادين الاستعمار المدل المذل تتواثب عليها قوى الإنجليز والروس ظاهرة وباطنه، فهاله منذ شب عدوان الأجنبي على استقلال أمته وجيرته.
كل أولئك الذي ذكرت من كرم المحتد، وشرف المولد، وبداوة البيئة، وعمق الثقافة، وحذق اللغات، وإدمان الرحلة، ومعاناة الاستبداد، ومكابدة الاستعمار، لم يخلق وحده الرجل المصلح في جمال الدين، وإنما كان مساعداً لسر العبقرية الذي اكنّه الله فيه على أن يظهر مهيأ الأسباب مستكمل الوسائل.
كان رضى الله عنه متواضع النفس لأنه عظيم، جريء الصدر لأنه حر، ندى الراحة لأنه زاهد، ذرب اللسان لأنه قرشي، أبى الضيم لأنه أمير، حاد الطبع لأنه مرهف، صريح القول لأنه رجل. ولم يبتغ من وراء هذه الصفات - كما قال - إلا سكينة القلب. وكان يحمد الله على أن آتاه من الشجاعة ما يعينه على أن يقول ما يتعقد ويفعل ما يقول. ومن تمازج هذه الشمائل وتلك الوسائل فيه اتسعت حوله الأرض، وامتد أمامه الافق، وانصرف همه البعيد عن الدار والزوجة والعشيرة إلى الوطن الإسلامي كله، والشرق الإنساني كله، فجعل قصده ووكده أن يدعو إلى إنهاضهما بالوحدة الإسلامية لتدفع غائلة المستعمر، وبالحكومة الدستورية لتقمع شرَّة المستبد.
وقد آمن بهذه الدعوة إيمانه بالله حتى رأى في سبيلها السجن رياضة والنفي سياحة والقتل شهادة!
وكان الذين يقفون من سيرة الأفغاني على الهامش يظنون انه قصَر جهده في تحقيق هذه العودة على الكتابة والخطابة؛ والواقع الذي لا شك فيه انه فكر ثم قدّر ثم دبّر، ولكن الوحدة كانت من الشتات بحيث لا تلتئم، والاستبداد كان من الثبات بحيث لا ينهزم.