تولى الوزارة وهو في ريق شبابه لأمير الأفغان محمد أعظم، فجمع نفسه على الاستقلال، وأدار أمره على الشورى، فأوجس الإنجليز خيفة من هذه النزعة، فأرسلوا ذهبهم إلى منافسه فأضرم الثورة وفرق الكلمة وطرد الأمير. وخرج السيد إلى الهند يبتغي السكينة عند تاجر صديق، فاستقبله الإنجليز على الحدود، وأنزلوه بالإكراه ضيفاً على الحكومة. فسألهم الإقامة شهرين، ولكنهم حين رأوا إقبال الناس عليه، وإصغاءهم الشديد إليه، قصَّروا هذه المدة وأمروه بالخروج. وكادت الأعصاب الهندية المخدّرة تثور حين قال لزعماء الهنود وهو راحل:
(وعزة الحق وسر العدل، لو أن ملايينكم مُسخت ذباباً لأخرجت الإنجليز بطنينها من الهند. ولو انقلبت سلاحف، وخاضت البحر إلى الجزر البريطانية لجذبتها إلى القاع)!
وفي الآستانة استقبله الصدر الأعظم استقبال التجلة، وأحله أعيان الدولة محل الكرامة. ثم عُين عضواً في مجلس المعارف، فرى في التعليم رأياً، وخطب في الصناعة خطبة، احفظا عليه أعوان الجهل من رجال العلم، وإخوان الضلال من شيوخ الدين. وتولى قيادة الإرجاف شيخ الإسلام لحاجة في نفسه، فافترى على الرجال الأباطيل، وبسّ حواليه النمائم، فلم يجد الأفغاني بدَّا من النزوح إلى القاهرة.
وهنا وجد الصدر الأرحب في رياض باشا، فتجلت عبقريته في التعليم والتنبيه والتوجيه؛ وأوقد بالزيت المقدس شعلته الوهاجة في البيت وفي القهوة، فعشا على ضوئها الهادي طلاب المعرفة وعشاق الحكمة من علماء وأدباء وساسة وقادة. ثم اتخذ من المحفل الماسوني الذي أنشأه، منارة لهذه الشعلة، فقسم الإخوان العاملين فيه شعباً لكل وزارة من وزارت الدولة شعبة. فشعبة الحربية تنظر في ظُلامة الضباط المصريين، وتنذر (ناظر الجهادية) أن ينصفهم من الضباط الجراكسة. وشعب الحقانية والمالية والأشغال تنذر وزراءها أن يساووا المصريين بغيرهم في العمل والمرتب. وراع أولى الأمر ما قرءوا في تقارير الُّشعب، وما سمعوا من لغط الموظفين، وما رأوا من قلق المثقفين، فاستدعاه الخديوي توفيق وفاوضه في ذلك، فقال له فيما قال:(إن سبيل الإصلاح أن يشترك الشعب في حكم البلاد عن طريق الشورى). ثم ازداد جمال الدين إمعاناً في حملته، وانقلب الأدب كله أصداء لأحاديثه وأبواقاً لدعوته، حتى انتهى الأمر - بعد جهاد ثماني سنوات - إلى أن