ضاق الإنجليز بسعة نفوذه، فزينوا للخديوي أن يخرجه من مصر فأخرجه.
وانتقلت الشعلة إلى باريس، وسطعت في العروة الوثقى، وظلّت ألسنتها ثمانية عشر شهراً تومض في جنبات الشرق كما تومض المنارة في ظلمات المحيط، حتى دلت على أوكار الطغيان ونمت بأسرار القرصنة، فاستقدمه شاه العجم واستوزره، فلما أشار عليه بالشورى أشاح بوجهه عنه. واستزاره قيصر الروس واستخبره، فلمّا نبأه بحديث الشورى نفر منه. واستدعاه خاقان الترك واستشاره، فلما نصح له بالشورى وتقسيم الإمبراطورية إلى عشر خديويات يتولاها أمراء عثمانيون، زوى عبد الحميد ما بين عينيه؛ ولكنه ألطف الجواب للحكيم الشجاع، وظل على إكرامه واحترامه أربع سنين حاول فيها أن يكبله بحبال المنصب والزواج فلم يستطع، ولكن الموت استطاع أن يكبل الثائر الحر ليبلغ الاستبداد اجله المقدور!
وهكذا كانت حياة جمال الدين كلُّها جهاداً مضنياً في سبيل الله والعلم والحرية والشورى.
كان أينما حل تنفس الصبح واستيقظ الهجود، وأينما رحل ارتجفت العروش واضطربت القيود!
طيب الله ذكرى هذا الإمام العظيم، واجزل له ثواب المصلحين المخلصين في جنات النعيم!