للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

واحداً من الزملاء كان ناقماً أشد النقمة على هذه الرحلة، ويرى فيها شؤماً أي شؤم، وعذاباً أليماً، وانتقاماً ليس بعده انتقام، وتوهيناً للقوة، وتشتيتاً للشمل الجميع. . .!

ولهذا كان يناهض كل مادح لعنيبة مناهضة قوية، ويعارضه في شدة وقسوة، فهو يريد أن يعيش في القاهرة بنصف مرتبة! ولا يحب أن يأكل زوجاً من الحمام في عنيبة، ويأكل في القاهرة أو في بلدته نصف حمامة فقط! ولا يحب أن يأكل في عنيبة رطلا من اللحم ويأكل في القاهرة أو في أي بلدة أخرى ربع رطل فحسب! ولا يريد أن يدخر في عنيبة ثلاثة أرباع راتبه الشهري، ويحب أن ينفق كل مليم من دخله في القاهرة أو أي بلدة أخرى!!

وهكذا مضى يناقش ويناضل في قوة كل من يثنى على هذه البلاد بقليل أو كثير، وكأنما كل مادح في عينة هو الذي قضى عليه أن ينقل إليها، ليلقى فيها عناء الوحدة القاتل، ومرارة التعذيب الأليم. . .!!

ولهذا فإن الزميل، كان يأنس بفريق آخر من الناس، زم شفتيه عندما علم أننا ذاهبون إلى عنيبة، ونظر إلينا نظرة رثاء وإشفاق، ورأى أننا مشردون منفيون لا محالة، ولا بد أننا قمنا بحركة سياسية لم ترض القائمين بالأمر، فحكموا علينا بذلك الحكم القاسي، الذي لا مرد له، وأننا سنلقى هناك صحراء جرداء ولن ننعم فيها بشئ، لأنه ليس فيها شئ ينعم به إنسان. سورى الجبال والرمال، والعقارب، و (الطريشة) وهي نوع من الثعابين يتحوى عندما يشعر بإنسان قادم نحوه، ثم يقفز إليه، فإذا عضه، فلا علاج أبداً غير قطع هذا الجزء الملدوغ في الجسم، وصب زيت مغلي على موضع الجزء الملدوغ في الجسم، وصب زيت مغلي على موضع الجزء المقطوع؟!!.

استمعنا إلى هذا، فأدركتنا الرهبة، وملأنا الخوف، واقشعرت منا الأبدان، واصطكت الأسنان، وجحظت العيون، ونظر بعضنا إلى بعض نظرات تنم عن الجزع والهلع، واللوعة والاضطراب. وكدنا جميعاً نوافق الزميل الناقم، وخيل إلينا أن خير طريق نفعله، وأفضل حل نرتضيه لهذا المأزق الذي نحن فيه، هو القناعة بوظيفتها في القاهرة، ومركزنا الذي ارتضيناه ثلاثة أعوام، وألفنا كل ما يحيط به من بيئة وأساتذة وتلاميذ، وأنه لا داعي لهذه الترقية التي ستلقى بنا في أحضان العقارب الشائلة، والثعابين الرقط، وسط تلك الصحراء الجرداء. . . علينا إذن أن نلوي وجوهنا ثانية نحو القاهرة، ولتأخذ وزارة

<<  <  ج:
ص:  >  >>