مدى واتساعاً عن المعرفة التي وصل إليها علماء العقل الباطن في زماننا هذا.
نرى الغزالي يشبه العقل بقبة مضروبة لها أبواب تنصب إليه الأحوال من كل باب، أو بهدف تنصب إليه السهام من الجوانب، أو مرآة منصوبة تجتاز عليها الصور المختلفة فتتراءى فيها صورة بعد صورة، أو بحوض تنصب فيه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة إليه وإنما مداخل هذه الأنهار المتجددة في العقل في كل حال. أما من الظاهر فالحواس الخمس، وأما من الباطن فالخيال والشهوات والغضب والأخلاق المركبة من مزاج الإنسان فإنه إذا أدرك بالحواس شيئاً حصل منه على أثر في العقل وإن كف عن الإحساس فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء، وبحسب انتقال الخيال ينتقل العقل من حال إلى حال آخر. والمقصود أن العقل في تغير وتأثر دائمين من هذه الأسباب. وأخص الآثار الحاصلة في العقل هو الخواطر وأعني بالخواطر ما يحصل في العقل من الأفكار وأعني به إدراكاته علوماً. إما على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر فإنها تسمى خواطر من حيث أنها تخطر بعد أن كان العقل غافلا عنها. والخواطر هي المحركات للإرادات فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور المنوي بالبال لا محلة. فمبدأ الأفعال الخواطر ثم الخاطر يحرك الرغبة والرغبة تحرك العزم والعزم يحرك النية والنية تحرك الأعضاء. والخواطر المحركة للرغبة تقسم إلى ما يعدو إلى الشر أي إلى ما يضر وإلى ما يدعو إلى الخير أي إلى ما ينفع، فهما خاطران مختلفان فافتقرا إلى اسمين مختلفين. فالخاطر المحمود يسمى إلهاماً والخاطر المذموم أعني، الداعي إلى الشر يسمى وسواساً إلى أن يقول: ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر حادثة. ثم إن كل حادث لا بد له من محدث. ومهما اختلفت الحوادث دل ذلك على اختلاف الأسباب. ومهما استنارت حيطان البيت بنور الدار وأظلم سقفه واسود بالدخان علمت أن سبب السواد غير سبب الإنارة وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان.
فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكا، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطاناً. واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقاً والذي يتهيأ لقبول وساوس الشيطان يسمى إغواء وخذلاناً.
هذه صورة واضحة الأجزاء بينة الجوانب زاهية الألوان بين الغزالي بها في صراحة