ووضوح وترتيب واتساق الرغبات المتصارعة في النفس الإنسانية من جراء القيود الكثيرة التي تقيدها بها النية الاجتماعية وهو يعنى ولا شك العقل، العقل بجزأيه اللاشعوري والشعوري، معتبراً خواطر العقل الباطن خواطر شر أو هي الشياطين التي تغري الإنسان بتحقيق رغباته الغريزية الإيجابية المتضاربة مع مقتضيات المجتمع. ومعتبراً خواطر العقل الواعي خواطر خير أو هي الملائكة التي توفقه لما فيه خيره ونفعه. وليس غريباً أن يعتبر الغزالي الرغبات الغريزية والميول الفطرية التي تتنافى مع مقتضيات المجتمع - ولا سيما من الوجهة الدينية - شروراً وآثاماً ضارة وشياطين موسوسة ومغرية، وأن يعتبر تحفظات العقل الواعي أو الضمير الاجتماعي ملائكة تلهم التوفيق وتدعو إلى الخير والنفع العميم.
ولم يفت الغزالي في هذا المعرض الخدع النفسية التي تحاول فتح باب الشعور لرغبات العقل الباطن المكبوتة. وقد أدرك ما في هذه الناحية من حياة الإنسان النفسية من غموض وصعوبة فهم قال - ينبغي أن يعلم أن الخواطر تنقسم إلى ما يعلم قطعاً أنه داع إلى الشر فلا يخفى كونه وسوسة، وإلى ما يعلم أنه داع إلى الخير فلا يشك في كونه إلهاماً وإلى ما يتردد فيه فلا يدرى أنه من الملك أم من الشيطان. فإن من مكايد الشيطان أن يعرض الشر في معرض الخير والتمييز في هذا غامض إلى أن يقول وأغمض أنواع علوم المعاملة الوقوف على خدع ومكايد الشيطان. ولنر الآن هذا التشبيه الجميل الذي وضعه الغزالي للعقل الواعي بالنسبة للخواطر اللاشعورية أو رغبات العقل الباطن يقول - العقل مثال حصن والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن فيملكه ويستولي عليه ولا يقدر على حفظ الحصن من العدو إلا بحراسة أبواب الحصن ومداخله ومواضع ثلمه، ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يدري أبوابه. فحماية العقل عن وسواس الشيطان واجبة.
أما الأبواب التي يذكرها الغزالي أنها مداخل الشيطان إلى العقل فهي الغرائز، يقول: من أبواب الشيطان العظيمة إلى العقل الغضب والهم والطمع والحقد.
ويعجبنا تنبيه الغزالي إلى تأثير كبت الرغبات الغريزية في اللاشعور كبتاً يحدث مرضاً عصبياً أو تسامياً، ويعجبنا أيضا من الغزالي هذا السؤال الذي طرحه على نفسه ليجيب عليه وهو هل يتصور أن ينقطع الوسواس بالكلية عند الذكر أم لا.