لاشك أن الغزالي عرف جيداً أن الرغبات الغريزية المكبوتة في اللاشعور لا تنقطع عن العمل بل تظل تعمل في صميم النفس وقرارة العقل الباطن أعمالاً تسبب أمراضاً نفسية وعصبية منها الوسواس، أو تسبب تسامياً تنفس به النفس ألم الكبت ومضاضة الحرمان. ويجمل بما أن نورد هنا ما يقوله الغزالي جواباً عن هذا السؤال يقول:
إن العلماء المراقبين للعقول من صفاتها وعجائبها اختلفوا في مسألة انقطاع الوسوسة بالذكر؛ فقالت فرقة: الوسوسة تنقطع، وقالت أخرى: لا ينعدم أصل الوسوسة ولكن تجري في العقل ولا يكون لها أثر لأن العقل إذا صار مستوعباً للذكر كان محجوباً عن التأثر بالوسوسة، وقالت فرقة لا تسقط الوسوسة ولا أثرها ولكن تسقط غلبتها على العقل. والوسواس أصناف فقد يكون بتلبيس الباطل ثوب الحق، وقد يكون بتحريك الشهوات، وقد يكون بمجرد الخواطر.
ومن هذا يتبين لنا جليا أن الغزالي يعرف جيداً أن الوسوسة مرض نفسي لا يزول بذلك النوع من العلاج وهو الذكر، وكل ما يفعله الذكر في هذه المشكلة النفسية أو الوسوسة هو تخفيف وقعها وتقليل شرها. ونحن نرى الغزالي في هذه القطعة محللاً نفسيا أكثر منه واعظاً دينيا أو عالماً أخلاقيا.
وكأن الغزالي قد عز عليه أن يعرف أسرار النفس البشرية ولا يعرف العقد النفسية أو المركبات العاطفية فقد وضع يده على هذه العقد والمركبات وضع الخبير العارف قال - إن القلب تكتنفه الصفات التي ذكرناها وتنصب إليه الآثار والأحوال من الأبواب التي وصفناها فكأنه هدف يصاب على الدوام من كل جانب.
فإذا أصابه شيء يتأثر به أصابه من جانب آخر ما يضاده فتغير وضعيته، فإن نزل به الشيطان فدعاه إلى الهوى نزل به الملك وصرفه عنه، وإن جذبه شيطان إلى شر جذبه شيطان آخر إلى غيره، وإن جذبه ملك إلى خير جذبه آخر إلى غيره. فتارة يكون متنازعاً بين ملكين وتارة بين شيطانين وتارة بين ملك وشيطان. وأي قول أبلغ في وصف العقد النفسية والمركبات العاطفية من هذا القول وسنبسط هذا الموضوع في المقالات القادمة إن شاء الله.