عانينا أن نعربه وأن نقوم تصريفه معاناة لا تخلو من تكلف، ولا تسلم من تعثر. ولذلك نجد المدرس في مدرسته، والمحاضر على منصته، لمتحدث أمام المذياع، يستنجدون مضطرين بالوقف، ويمتضغون بعض الصيغ، فراراً من كلفة الإعراب، واتقاء للخطأ في تصريف الألفاظ.
وقد أدت هذه المصاعب التي يضيق بها الناطقون بالفصحى، أو الحرصاء على النطق بها، إلى المناداة بترك الإعراب، واللجوء إلى الوقف. على أن الأخذ بهذه الدعوة لا يرفع جملة ما هنالك من مصاعب، فمن وراء الإعراب ضبط بنية الكلمة، في أوائلها وأوساطها، مما تقتضيه قواعد الصرف، وسماع اللغة. فإذا نودي بأن ننفض عن اللغة إعرابها وصرفها وضوابط كلماتها جميعاً، فلا تسمية لذلك إلا أنه (انحلال لغوي)، إذ هو يفقد اللغة مقومات من جوهرها الأصيل.
حقاً لقد شاعت في البلاد العربية بيئة ثقافية لها لغتها الفصحى، وحقاً إن هذه البيئة لها منبعان فياضان من المقروء والمسموع. ولكن هذين المنبعين لم يغنيا أهل العربية شيئاً في صحة القراءة، فإن المقروء عار من الضبط، والمطالعون يمضون في قراءتهم على غير هدى. وأما المسموع فاللحن فيه شائع، والخطأ كثير، وربما كان ضرره أكبر من نفعه.
ولو كانت هذه البيئة الثقافية بمنبعيها الفياضين كافلة للقارئ والسامع ضبطاً صحيحاً للألفاظ والصيغ، لأدت لأهل العربية نفعاً عميماً؛ ولكانت بذرة مخصبة لإثمار سلائق سليمة.
وأكاد أقول بأن هذه البيئة الثقافية بما فيها من مقروء ومسموع، لو شاع فيها الضبط، لأصبحت أقوى أثراً من تلك البيئة البدوية التي كان الخلفاء والأمراء يبعثون إليها بأبنائهم في فجر الإسلام وضحاه، لاكتساب العصمة من اللحن في الإعراب، والسلامة من الخطأ في تصريف الكلام.
فلنتمثل في خاطرنا أن الضبط قد شاع بين أهل العربية في سائر ما تقع عليه الأعين، وما تلتقطه الآذان: الطالب في مدرسته من أول مرحلة في حياته الدراسية إلى أن يتخرج في جامعته، في مختلف مواد دراسته، والقارئ عامة فيما بين يديه من الصحف والمجلات والكتب والنشرات، والأسرة كلها بمسمع من المذياع - فلنتمثل في خاطرنا أن هؤلاء جميعاً لا يقرءون ما يكتب لهم إلا مضبوطاً أدق ضبط، ولا يسمعون ما يلقى عليهم إلا معرباً