وسرور:(إن آلاف الأجيال القادمة لن تقسم إلا باسمي)!
وتضخمت في نفس نيتشه عاطفة الأرستقراطية، فلم يلبث شعوره بنفسه أن تزايد، حتى استحال إلى شعور مريض غير طبيعي. وليس أدل على انحراف نفسيته في هذا الصدد، من أنه كان يعتقد أنه ينتسب إلى سلالة نبيلة من جنس سلافي، كأن السلافيين جنس راق ليس أنبل منه، وكأنما هو سلافي أصيل حقاً! - فهذا الألماني الذي تجري في عروقه دماء جرمانية خالصة، كان يفخر طوال حياته بأنه من أصل بولوني عريق، هو آل على حين أن أخته نفسها قد ذكرت أنه ليس في عروقه قطرة واحدة من الدم البولندي! وهذا الابن الذي أنجبه قسيس ألماني من مقاطعة بروسية، كان يتوهم دائماً أنه ليس بألماني! وقد كوَّن عنده ذلك الأصل البولوني المزعوم فكرة متسلطة سيطرت على نفسه وكان لها تأثير كبير في حياته، حتى لقد أصبح يخضع لها في كل تفكيره وعمله
ولما كان النبيل البولندي - فيما يروى نيتشه - يفصل في الحكم الذي يُصدره مجلس بأكمله، فيحكم عليه بجرة قلم واحدة أنه منقوض أو ملغي، وبذلك ينسخ حكم ذلك المجلس بكلمة واحدة، فقد شاء نيتشه أيضاً أن يقضى على كل ما حكمت به الإنسانية مثل هذا القضاء، ومن ثم فقد تقدم في بطولة وإقدام، وكتب تحت كل ما قضت به الإنسانية حتى الآن:(منقوص)! ونحن نعلم أن كويرنيكوس كان بولونياً؛ وقد غير كويرنيكوس نظام الكون، فلا بد أيضاً من أن يقلب نيتشه نظام الأفكار والمعايير رأساً على عقب، ولا بُدَّ من أن يجعل الإنسانية تدور حول محور مما كانت تحتقره وترذله - وإذا كان شوبان البولندي (وهو في الحقيقة فرنسي أيضاً بحكم أن أباه كان فرنسياً) قد حرَّر الموسيقى من التأثيرات الألمانية، فإن نيتشه لا بد أيضاً أن يحرر الفلسفة من هذه التأثيرات الألمانية! ولكن كل ما فعله نيتشة في الواقع هو أنه عدَّل فلسفة شوبنهور واتجه بها اتجاهاً خاصاً؛ فلم يتجه بإرادة الحياة اتجاهاً تشاؤمياً، ولم يَلْقَ ضروب التغير وما يجيء معها من ألوان الألم المختلفة بكلمة (لا)(كما فعل شوبنهور) بل اتجه بإدارة الحياة اتجاهاً تفاؤلياً، وتقبَّل كل وما يجئ به التغير من ضروب الألم. أما الذي جعله يعتقد أنه قد اتجه بالفلسفة اتجاها جديداً خاصاً، فهو ميله إلى اعتبار نفسه رائد الإنسانية الأول! فإن نيتشة حينما كان ينتج فكرة من الأفكار، كان يتوهم أن أحداً قبله لم يسبقه إلى تصور تلك الفكرة؛ ومن أجل ذلك فإن كل