عبارة من عباراته، وكل قول من أقواله، يرن في السمع كأنه كلمة الخالق:(ليكن نور)! أي كأنما هو يستخرج عالماً من العدم!
وعلى الرغم من أن نتيشه قد انتقض على الفلاسفة الألمانيين جميعاً، فإنه قد اعتقد بمثل ما اعتقد به هؤلاء (ابتداء من هيجل حتى شوبنهر) وهو أن ليس في استطاعة أحد غيره أن يفهمه! وفي كتابه (عدو المسيح) نجده يذكر أن اليوم الذي سيكون ملكاً له إنما هو اليوم الذي يتلو الغد. . . (إن هناك أناساً يولدون بعد موتهم؛ وأنا أعرف جيداً ما هي الشروط التي لا بدّ منها، لكي يفهمني الناس: آذان جديدة تستطيع أن تتسمع الموسيقى الجديدة. . . أعين جديدة تستطيع أن تستشف الأشياء البعيدة. شعورٌ جديد يستطيع أن يتقبل الحقائق التي ظلت صامته خرساء حتى الآن. إن من يتهيأ لهم هذا كله، هم وحدهم قرائي، قرائي الحقيقيون، المقدَّرون لي منذ الأزل؛ فماذا يعنيني عن الباقين؟ إن الباقين هم الإنسانية (أو العامة، فالمعنى واحد)؛ ولا بد أن نسمو على الإنسانية في القوة، ورفعة النفس، والقدرة على الاحتقار)!
هذا هو نيتشه كما بدا لنفسه، فقد اعتقد فيلسوفنا أنه ليس ثمة رجل يدانيه بين أهل عصره. وعلى الرغم من أن نظرته إلى نفسه لا تخلو من الصدق في بعض النواحي - لأن شخصية نيتشه في الواقع شخصية فريدة، قلما يعثر المؤرخ على نظير لها - إلا أن في هذه النظرة أيضاً شيئاً غير قليل من الإغراق والتهويل. ومهما يكن من شيء؛ فإن قارئ نيتشه تتوزّعه عاطفتان مختلفتان أثناء مطالعته لكتب فيلسوفنا: عاطفة الإعجاب من ناحية، وعاطفة الشفقة والرثاء من ناحية أخرى (بالرغم من أن نيتشه قد اطرَّح هذه العاطفة الأخيرة واعتبرها إهانة أو مسبَّة) فنحن نجد لدى نيتشه، وفي تضاعيف كثير من الأفكار السامية، شيئاً ينطوي على الانحراف والشذوذ، وهذا الشيء يستوقف أحياناً، ويضيع على القارئ أروع التأثيرات العقلية في أحيان أخرى. وإذا كان نيتشه قد وسم كتاباً من كتبه باسم (مسألة فجنر، مشكلة موسيقية)، أفليس في استطاعتنا نحن أيضاً أن نقول:(مسألة نيتشه، مشكلة مَرَضِيَّة)