والمقامرة في السباق، والافتنان في المظهر. وكان أبي رحمه الله ناظراً على ما وقف جدي على أسرتنا الكبيرة المتشعبة من الضياع والرباع، فكان يغرق رغباتي في فيض من المال لا يغيض ولا يخُلْف. فلما توفاه الله آلت النظارة من بعده إلى أرشد أعمامي، فانقبض عني شيء من بسطة العيش. وكان لي بنون وبنات نشئوا في نعمة أبي. كما ينشأ النبات الربَّعي في خصيب الأرض، فلم أرد أن يمس نضرتهم ذلك الضيق الذي جره علينا طمع الناظر، فبعت ما ورثت عن أبي، وعشت سنين على الخفض والسعة. حتى إذا لم يبق إلا الوقف أخذت أرُوض نفسي وأهلي على التدبير، فاختصرت المسكن، واختزلت الأثاث، وضيقت المطبخ، ورضيت أن أركب (التاكسي) وأن أجلس في (النيوبار). . . وليت ذلك يا سيدي دام! فإن كبار المستحقين شغبوا على الناظر فعزلوه، وتألبوا على خلفه فشلوه، وأستحكم بينها الشقاق فلم يتفقوا على ناظر منهم. ثم لم تَنقطع أسباب هذا الخلاف، إلا (بتنظير) وزارة الأوقاف!
كان لجوء المستحقين إلى تنظير الوزارة، كلجوء القطين المتنازعين على قطعة الجبن إلى تحكيم القرد. فلم يبق لهم على الأعيان الموقوفة عين ولا يد. وأدارتها الوزارة على المنهج الحكومي فأرهقتها بالكتاب والنظار والمفتشين والمراقبين والخبراء؛ ولكل واحد من هؤلاء طريقة في العمل ورأي في الإصلاح يتغيران بتغييره. فالبناء الذي أُقيم يُهدم، والمصرف الذي حُفر يرُدم؛ ثم يسُتأنف البناء والحفر في مكانين آخرين! وهكذا دواليك: يتعاورُ البناء والتخريب، ويتعاقب الاقتراح والتجريب، حتى تذهب غلة الأرض بين نفقة الإدارة وحصة الوزارة! وأما الدور فهي قصور فسيحة ذات أسوار وحدائق رغب الناس عن سكناها لمخالفة طرازها لمقتضيات المدنية الحديثة. وأغفلتها الوزارة فلم تفكر في تجديدها واستغلالها ولا في بيعها واستبدالها، وإنما تركتها لمعول الزمان فلا تؤجرها إلا مخازن للتجارة وزرائب للحيوان ومساكن للفعلة!
كان دخلي على عهد الناظر الطماع ستمائة جنيه في العام، فأصبح على عهد الوزارة شيئاً لا أسميه! فهو سنة يكون ستين، وسنة يكون ستة، وسنة يكون مطلاً، وسنة يكون دَيناً! وأنا وزوجتي وأولادي نكابد غصص الحرمان في ركن رطيب من إحدى دورنا الخربة؛ فالبنون لا يجدون عملاً لمكانهم من الجهل، والبنات لا يجدن أزواجاً لمكاني من الفقر، ولا