استسلم لجاذبية الأرض. . وسرعان ما استحال طيرانه إلى قفز. . ونظر أمامه فوجد السرب قد توغل في الفضاء فداخله الهم، ولكن بقي لديه شيء من الأمل الذي كانت تحمله إليه بقايا أسلاك الشمس الغاربة، فصار يتعلق بها كما بتعلق الغريق بالأعشاب الطافية على وجه اليم. . على أن شعاع الأمل سرعان ما انطفأ مع أشعة الشمس، وانتشر الظلام في الأرجاء، وتسربل الكون بحلة سوداء. . والطائر المسكين لا يزال بعيداً عن العش، بينما الطيور الأخرى كانت في تلك الآونة تنعم بدفء الوكر وحنان الأهل، وتستقبل الظلام في هدوء واطمئنان؛ والناس والماشية بلغوا مستقرهم، والليل يهمس حولها: نعم عقبى الدار. . .
أخذ الطائر الشريد يسير على غير هدى في دياجير الظلام واليأس - يرتطم بالحوائط والجدران والأشجار، ويتعسر في الوحل والشوك، وقد كان في وسعه لو أراد أن ينزوي في ركن من الأركان، أو يقضي الليل فوق غصن من الأغصان، ولكنه لم يشأ أن يتخذ عن عشه بديلاً، بل آثر الجهد والنصب آملاً أن تسوقه الأقدار بعد طول السهاد إلى العش الوثير المحبوب. . . واستحالت في نظره حرية الفضاء إلى سجن قاتم، وجمال الشجر إلى قبح دميم، ونفح النسيم إلى شواظ من نار، وأنسى الطائر فقد العش كل ما كان ينعم به من لذة ومتعة وشدو، طليقاً في سماء الصفاء والجمال. . .
وبقي على تلك الحال من القلق والاضطراب إلى أن قاده الحظ العاثر إلى كوخ فلاح ينبعث منه نور ضئيل، فاندفع إليه في ساعة يأسه وحيرته دون تفكير. وهاجت الأطفال وماجت عند ما رأت وسطها الطائر الجميل، واجتهدت في حصاره وإلقاء القبض عليه، فاشتد هلع الطائر وقاوم مقاومة الأبطال، ولكن آلام جرحه اشتدت، وازداد تخبطه وتكرر سقوطه، وأخيراً وقع في الميدان صريعاً، فهجمت عليه الأعداء، ولكن سرعان ما تراجعت ووقفت مبهوتة صامتة مأخوذة برهبة الموت. . .
ولم يعلم الأطفال والكبار شيئاً عن سر دخول الطائر في ظلام الليل، ولو علموا سبب حيرته واضطرابه، وأنه قاوم القدر وأبى أن يهجع في غير العش الرؤوم إخلاصاً منه وولاء، لنثرت عليه الزهور والرياحين، ولشغل مكاناً من القلب أسمى من المكان الذي يشغله آلاف الناس - الذين لا يتعصبون في الحياة لأمر، ولا يتطرفون في الغرام بشيء،