للقطن والقمح والأذرة والبرسيم، وهنالك صيف وشتاء لأرض تتأهب لغرس جديد
إن تعجب يا صاحبي فاعجب لقطان هذا الريف السمح السخي إذ لا شيء أدعى للعجب بله الدهشة من تلقيك عكس ما كنت تتوقع وتتأمل
في طباع قطان الريف جود وبخل، حلم وسفه، ظَرف وسماجة، ذكاء وبلادة؛ ولعلي لم أتلمس وألتفت إلى الاستكانة وضدها الأنفة، والتواضع وضده الكبرياء، والشجاعة يقابلها الجبن، وسهولة الخلق وتوعره، لأنها وإن كانت من الصفات التي تسم روح الفلاح بميسم الانطلاق والحرية والاعتماد على النفس ولكنها مكبوتة فيه، مخنوقة من الجور الذي لا تبلى جدته، ولا يصدأ معدنه، الجور الناعم الباسم وقد توارثته الأجيال الحاضرة عن الظالمين والمظلومين من أقدم العصور
والريف وضيء الطلعة، واضح السنة، كفتاة في مستهل الصبا، عفيفة الطوية، إن تصدت تتصدى لأليفها، أو للقريب من روحها، وليس للمحة الخاطفة عندها مهما بان سناها سوى أثر البرق. . .
اقتربت من فتيات ريفيات يجنين القطن، وكنت إذ ذاك متيقظ النفس، متشوقاً إلى رؤية جنى محصول مصر العزيز، ولكني ما كدت ألقي بالنظرة الخاطفة حتى غامت الرؤى في عيني. . .
لقد تذكرت الأديب فخري أبا السعود، هذا الرجل الذي صدمته الحياة فتغلب عليها بالموت. . . تذكرته للفصل الممتع من الكتاب القيم الذي نقله إلى العربية لمؤلفه توماس هاردي في وصف فتيات ريفيات يجمعن القمح في الحقل، وإني لأنقل شذرة من الفصل للدلالة على أدب السرعة الذي نأخذ ذواتنا به لسهولته وخفته وعلى الأديب الموهوب الذي يندمج في موضوعه فيمتزج به، فيشيع فيهما روح واحد، فتسمع تجاوب الروح الواحد. . .
(تركت الآلة الحاصدة المحصول وراءها في أكوام صغيرة، كل كومة منها تصلح لأن تكون حزمة، وعليها أكب الحاصدون بأيديهم، وكان معظمهم من النساء، وكان الرجال يرتدون قمصاناً وسراويلات تجمعها حول أوساطهم أحزمة من الجلد) (أما بنات الجنس الآخر فكن أهم شأناً وأمتع منظراً، شأن المرأة حين تندمج في مظاهر الطبيعة يدل أن تظهر بينها مجرد ظهور، كما هي الحال غالباً، فالرجل في الحقل يبدو شخصية قائمة فيه،