للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

نفسه التي هي عماد شخصيته وأساس ذاته وماهيته. وإذا كانت الحقائق الكونية كلها تصل إلينا بالواسطة فهناك حقيقة واحدة ندركها إدراكا مباشراً ولا نستطيع أن نشك فيها لحظة، لأن عملها يشهد دائما بوجودها. وما أصدق سقراط حين قال: اعرف نفسك بنفسك. ولئن كنا نستدل على وجود جسم ما بالحيز الذي يشغله فالتفكير الذي هو خاصة النفس الملازمة لها دليل قاطع على وجودها

وقد سبق إلى هذا المعنى أغسطين فيلسوف المسيحية في القرن الخامس الميلادي وسلك في البرهنة على وجود النفس سبيلا تشبه من بعض الوجوه السبيل الآنفة الذكر، فذهب إلى أن الجسم والنفس حقيقتان متميزتان تمام التميز، ففي حين أن الأول يشغل حيزاً وله طول وعرض وعمق لا حيز للثانية مطلقا، وخاصيتها الوحيدة هي التفكير؛ ومن أجل هذا كان شعورنا بها وإدراكنا لها إدراكا مباشراً، فإن الفكر لا يحتاج إلى واسطة في فهم ذاته، ومادامت النفس تفكر فهي موجودة، لأن تفكيرها يساوي وجودها تمام المساواة. وقد يستطيع الإنسان أن يتجرد عن جسمه وعن العالم الخارجي في كل مظاهره، وأن ينكر الحقائق على اختلافها وأن يشك في كل شيء إلا نفسه التي هي مصدر شكه ومبعث تفكيره فإنه لا يجد إلى الشك فيها سبيلا

وهنا نتساءل: هل تأثر ابن سينا بأغسطين أم الأمر مجرد توافق خواطر؟ لم يثبت مطلقا أن مؤلفات الأخير نقلت إلى العربية، ولا نجد أية وسيلة سمحت لابن سينا بالأخذ عنه، ويرجح الأستاذ جلسن أنهما معا صدرا عن أصل إسكندري ولاسيما وهما شديدا التعلق بأفلوطين وتعاليمه، بيد أنا لم نقف على شيء مما وصل إلينا يشهد بأن رجال مدرسة الإسكندرية حاولوا البرهنة على وجود النفس على النحو السابق. ولسنا ندري ما المانع أن يكون برهان الرجل المعلق في الفضاء من ابتكار ابن سينا واختراعه، خصوصا وهو قد عودنا صوراً فرضية أخرى كثيرة كحديث حي بن يقظان ورسالة الطير التي تدل على خيال خصب ومهارة في التصوير. وعلى فرض أنه عالة على من قبله في بعض عناصر برهانه، فليس هناك شك في أن الصورة الجذابة التي صوره بها من بنات فكره وإنتاجه الشخصي، ويخيل إلينا أنه كان مغتبطا بفنه معجبا بتصويره، ولا أدل على هذا من أنه أبرزه مرتين في كتاب الشفاء وعاد إليه مرة ثالثة في إشاراته

<<  <  ج:
ص:  >  >>