للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وهذا التصوير هو الذي ميز برهنته من برهنة أغسطين وان كانتا تلتقيان في الغاية والمرمى. وهو الذي استلفت أنظار فلاسفة القرون الوسطى المسيحيين واستولى على نفوسهم، فأعاده الكثيرون منهم بنصه أحياناً، وخاصة أتباع أغسطين مثل غليوم الأقرني وحنا الروشيني، وكأن هؤلاء ازدادوا تعلقاً بالفيلسوف العربي حين رأوه يقترب من أستاذهم اللاتيني.

ولا نظننا في حاجة إلى أن نشير إلى أن كتاب الشفاء ترجم إلى اللاتينية. وكان للجزء المتعلق بالنفس منه أكبر الأثر في رجال الفلسفة المسيحية، ولم يكد دومينقوس جندسالينوس يترجمه في القرن الثاني عشر الميلادي حتى اقبلوا عليه يتدارسونه ويأخذون عنه مختلف الآراء، ولا يرون على أنفسهم غضاضة في أن يعزوا البرهان الذي نتحدث عنه إلى صاحبه ومبتكره ابن سينا

ويظهر أنهم استمروا يرددونه فيما بينهم إلى عصر النهضة وإلى أن جاء ديكارت فنادى بمبدئه المشهور الذي ينطوي على أفكار أغسطين وسينويه، ففي بحثه عن الحقيقة عاهد نفسه على أن يرفض كل ما يتطرق له الشك، لأن حواسنا في حال اليقظة تخدعنا وتنقل إلينا العالم الخارجي نقلا مشوها، ومخيلتنا أثناء النوم تغدق علينا صوراً وأوهاماً لا أساس لها. وأخذ يشك في كل شيء إلى أن انتهى به شكه إلى حقيقة ثابتة هي أنه يفكر؛ ومادام يفكر فهو موجود، وفي مقدور الشكاك واللاأدريين أن يهدموا الحقائق على اختلافها إلا هذه الحقيقة التي تحمل معها برهانها.

يقول ديكارت: (قد أستطيع أن أفترض أن لا جسم لي وأن لا عالم ولا مكان أحل فيه، ولكني لا أستطيع لهذا أن أفترض أني غير موجود، بل على العكس ينتج قطعاً وفي وضوح من شكي في حقيقة الأشياء أني موجود. . . فقد عرفت إذن أني جوهر ذاته وطبيعته التفكير، ولا يحتاج في وجوده إلى مكان ولا يخضع لشيء مادي، وعلى هذه الصورة الأنا أو النفس التي هي أساس ما أنا عليه متميزة تمام التميز من الجسم، بل هي أيسر معرفة منه، حتى في حال انعدامه لا تنقطع هي عن أن توجد مع كل خصائصها).

هذا هو الكوجيتو الديكارتي القائل: (أنا أفكر فأنا إذن موجود). وهذه هي البرهنة عليه. ولا يجد القارئ صعوبة في إدراك وجوه الشبه بين هذه البرهنة والبرهنتين السابقتين

<<  <  ج:
ص:  >  >>