الأغسطينية والسينوية، وقديماً لاحظ أرنولد أن ديكارت يحاكي أغسطين تمام المحاكاة في إثباته وجود النفس وتميزها من البدن ولم يبق مجال للشك في أن أبا الفلسفة الحديثة قرأ مؤلفات أغسطين وخاصة ما اتصل منها بالنفس وخلودها وحديثاً استطاع المسيو ليون بلنشيه أن يبين في سعة وتفصيل جديرين بالإطراء الأفكار التي سبقت الكوجيتو الديكارتي ومهدت له، غير أنه فاته أن يشير إلى الصلة بينه وبين برهان الرجل المعلق في الفضاء. وقد حاول أخيراً المستشرق الإيطالي فورلاني أن يتلافى هذا النقص، فكتب في مجلة فصلا عنوانه (ابن سينا والكوجيتو الديكارتي). وفيه يعرض برهان الفيلسوف العربي وترجمته اللاتينية القديمة، ثم يقارنه بما جاء به ديكارت موجها عنايته الكبيرة إلى بيان أثر الحواس والمخيلة لديهما، وينتهي بعد كل هذا إلى النتيجة الآتية: وهي أنه يستبعد أن يكون ديكارت قرأ ابن سينا رأسا لقلة المطبوعات وعدم تداول مؤلفاته في الأيدي، ويرجح أن يكون قرأه عن طريق غليوم الأقرني
ولكنا نلاحظ أن ترجمة كتاب الشفاء اللاتينية، أعيد طبعها في فينيس ثلاث مرات بين سنة ١٤٩٦ وسنة ١٥٤٦. فتكون آخر طبعة منها ظهرت قبل ميلاد ديكارت بخمسين سنة فقط. ونحنن نعلم كيف أثيرت مشكلة النفس وخلودها لعهده، فمن المحتمل أن يكون الباحثون قد لجأوا إلى كل المصادر الممكنة لحلها. وابن سينا من أطول الناس حديثا فيها وأكثرهم غراما بها. وقد أبان رينان من قبل مقدار تعلق السربونيين ورجال الدين في باريس بالفلسفة الإسلامية بوجه عام ومناقشتهم لها وردهم عليها وبحثهم عن أصولها ومصادرها، فلا يمكن أن تكون قد فاتتهم مطبوعات فينيس المتقدمة وفي مكتبة باريس الأهلية أكثر من نسخة من هذه المطبوعات، ويغلب على الظن أنها وصلت السربون منذ ذلك التاريخ: وإذا كان أرنولد قد أشار إلى أغسطين فقط ليبين أن ديكارت عالة على من قبله. فلعل ذلك راجع إلى أنه تخير شخصية معروفة من العالم المسيحي المحيط به
على أن ديكارت لم ينتبه إلى ابن سينا بواسطة غيوم الأقرني فقط، بل يغلب على ظننا أنه اهتدى إليه أيضاً في ثنايا مؤلفات روجير بيكون التي قرأها وتأثر بها في نواح مختلفة. ومهما يكن فسواء أقرأ ديكارت ابن سينا مباشرة أم عن طريق غير مباشر فكل الدلائل قائمة على أن برهان الرجل المعلق في الفضاء جدير بأن يعد بين الأفكار التي سبقت