للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من مجلة (المعرفة) وقد نشرت فيها قصيدة للجارم بك، ونسى محررها أن ينسب القصيدة إلى قائلها، وأطلعته عليها فطرب لها وبخاصة الأبيات الآتية منها:

لعبت بك الحسناءُ تدنو ساعة ... فتثير ما بك ثم تهجُرُ عاما

والحبُّ ما لم تكتنفه شمائلٌ ... غرٌ يعود معَرةً وأثاما

والحبُّ أحلام الشباب هنيئة ... ما أطيب الأيامَ والأحلاما

والحبُّ نيران المجوس لهيبها ... يحي النفوس ويقتل الأجساما

والحبُّ من سرَّ السماء فسمه ... وحياً إذا ما شئت أو إلهاما

يا جنةً لو كان ينفع عندها ... نُسْك لبتْنا سجَّدا وقياما

وسألني: لمن هذا الشعر؟ فلم أجب. وقلت: إن كان هذا شاعراً مصريّاً فقد اعترفت لهم بالقوة وعمق الخيال. إنك شاعر وكاتب ومطلع اطلاعاً وثيقاً، وعليك أن تنسب الشعر إلى صاحبه من غير أن أدلك على اسمه؛ فأجاب فوراً: إنه الأستاذ الجارم. فقلت: أتراني كسبت القضية؟ قال: إنني عندما أستحضر صورة وجه الجارم وهو من رشيد، ورشيد على ساحل البحر أحكم أن دمه ليس خالصاً لمصر؛ فليست كل شاعريته مصرية؛ كشوقي مثلاً فهو مجموعة من عقليات أمم كثيرة تعاقبت على الزمان بالمصاهرة كما قال هو عن نفسه

ولقد كان أستاذنا الرافعي قاسياً على الشعراء المصريين؛ وقسوته في ظني كانت تعود إلى عوامل محلية في علاقته بأدباء مصر وعلاقتهم به، فقد كانوا أثرين يغتصبون الشهرة اغتصاباً، ويتخذ كل شاعر شيعة تسبح بحمده، وكانت الشهرة الأدبية ميداناً للتزاحم ليقول كل واحد: أنا!! فيقول له الآخر: لست ذاك!. وأنا أرجو أن يطهر النقد الأدبي في العصر الحديث من هذه الصغائر والخزعبلات، وأن تتجه الجهود إلى بناء لا إلى الهدم، فالعصر عصر السرعة ونسيان النفس إن أرادت مصر نهوضاً حقاً، وغسلت نفسها في كل نواحيها السياسية والأدبية من قوله أنا! وبعدي الطوفان!

لكل أمة من الأمم بيئة خاصة، وعقلية خاصة، وتيارات في الحياة خاصة توجه أدبها، وهذا الاتجاه يتوارث على توالي القرون؛ فالمدح أو الرثاء في الشعر العربي من طبيعته، وتصوير الأشخاص ورسم صورة فنية لعمال العظماء كانت ولا تزال مجال الشعراء العرب قديماً وحديثاً، والأسلوب كذلك تراث نقلته إلينا الأجيال؛ فالأستاذ الجارم بك تمثلت

<<  <  ج:
ص:  >  >>