على الظلم كارهاً بحكم القوة، فلما رأى أن حكومته منه، وأنها تستمد قوتها من قوته، لم يرض عن ظلم، بل هو يشتط في طلبه فلا يرضى عن عدل مشوب بظلم، إنما يريد عدلاً خالصاً، ويتطلب منها المثل الأعلى في العدالة وإلا لا يمنحها رضاه
ثم هو لا يرضى بتحقيق العدل السلبي وحده، مثل عدم الترقية لصلة أو قرابة، وعدم الظلم في توزيع مياه الري ونحو ذلك، إنما يطالب بتحقيق العدل الإيجابي أيضاً، مثل إصلاح نظم التعليم ونظم المال ونظم الصحة ونظم الشئون الاجتماعية؛ فإذا قصر الحاكم في ذلك ملّ المحكوم وسئم وشكا من أن العهد الجديد لم يفترق عن العهد القديم إذا لم تتحقق آماله ولم يظفر بما كان يرجو من سعادة.
على أن من الإنصاف أن نقول إن تبعة صلاحية الحكم وعدمه لا تعود إلى الحاكم وحده، بل إن جزءاً كبيراً يحمله الشعب المحكوم نفسه، فالحكم فعل وانفعال مستمران بين الحاكم والمحكوم، والنتيجة التي نراها من تقدم الأمة أو تأخرها هي نتيجتهما معاً لا نتيجة الحاكم وحده.
والأثر الذي يقول (كما تكونون يولى عليكم) ليس قانوناً للقَدَر بل هو قانون طبيعي، فحالة المحكوم تشكل الحاكم - لا محالة - بالشكل الذي يتفق وحالته، وقد علّمنا التاريخ أن عسف الحاكم لا يتم ولا ينجح إلا إذا سبقه استنامة المحكوم وضعف إحساسه؛ وصلاحية الحاكم مسبوقة دائماً بتنبه المحكوم وحسن تقديره للعدالة والظلم.
بل إن أساليب الحكم ونظريات الحكومات لم تتقدم على مر الزمان تقدم الشعوب في تقدير العدل والظلم، فنظم الحكم التي وضعها اليونان والرومان وعلى رأسهم أفلاطون في جمهوريته وأرسطو في كتابه السياسة لم تتقدم كثيراً في عهدنا الحاضر، ولكن شعوب اليوم في فهم الحكم ومدى سلطة الحاكم وإبائهم أن يتجاوز حده أرقى بكثير في ذلك من شعوب الأمس الدابر. لقد كان الحاكم يستطيع أن يحكم في سهولة ويسر وإلى عهد طويل شعبه على رغم أنفه بسلطانه وجبروته، ثم هو يتحمل أعباء الحكم على كتفه وحده؛ أما اليوم فلا يستطيع حاكم مهما أوتي من العقل والقوة أن يحكم إلا برضا شعبه وبمعونته وبمشاركته إياه في حمل العبء؛ وإن وجدت حالات تخالف ذلك فحالات شاذة لا يسمح النظام الاجتماعي ببقائها طويلاً.