للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أمله ورجاءه وخوفه وإشفاقه وأحاطها بعواطفه، وصب فيها من ماء حياته. . . حتى إذا نما النبت واستطال، وظلته غصونه، وتدلى من حوله زهرة، وأينع ثمره، اضطر إلى بيعه. . . فما هي إلا عشية أو ضحاها حتى يراه في يد غير يده. . . سَلْهُ كم يتألم ويشقى، ويتقطع القلب منه حسرات كلما تنظر إلى هذه الأشجار، وذكر ماله فيها من ذِكَر وما أنفق عليها من أصباحة وأماسيه، ومن حبه وأماني نفسه. . . وإنها لأشجار. . . جمادات لا تعقل. . . فكيف بي وقد ربيت بشراً ثم أعرضوا عني ونسوا عواطفي وحبي. . . وما نسيتهم ولا أقلعت عن حبهم؟.

وما كان لي يا ولدي أن أزعجك بحديثي لولا أني أنفّس به عن نفسي. إنني أعيش وحيداً في هذه القرية المعتزلة لا أدري كيف أزجي الباقي من أيام حياتي. إني أشكو الملل، ولا أطيق النوم، فلا أجد إلا النجم أراقبه وذكرياتي أناجيها. وكثيراً ما تثقل عليَّ هذه الذكريات، حتى لأُضلَّ قلبي بين حاضر لا متعة فيه وماض لا رجعة له. . .

لا، يا ولدي، لا تحرص على هذه المهنة. اتركها إن استطعت فهي محنة لا مهنة. هي ممات بطيء لا حياة. إن المعلم هو الشهيد المجهول الذي يعيش ويموت ولا يدري به أحد، ولا يذكره الناس إلا ليضحكوا من نوادره وحماقاته.

وعدنا من المشية نسلك تلك الأودية، ونتسلق تلك الصخور عائدين من (صاربتا) ولا يزال حديث أستاذي يدوي في أذني، فأحس به في هذه البرية الساكنة قوياً مجلجلاً، ولكن الناس لا يسمعونه، وإن هم سمعوه لم يحبوا أن يفهموه!

علي الطنطاوي

<<  <  ج:
ص:  >  >>