للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فقلت: نأكل الحبوب والبقول واللبن الرائب والجبن الأريش والمش المعتق. . . فبدت على قسماتها الجميلة مخايل الشك في قولي، وهمت تقول شيئاً لولا أن رأت غماز الشص يغطس ويعوم فشغلت به، وجذبت الشص من الماء، فإذا به يعلق بشبارة في حجم كفها الصغيرة، فاستطارها الفرح، وهزها النجاح، وأخرجت الشص من فم السمكة المضطربة وناولتها الخادم، وأرادت أن تطعمه فلم تجد طعماً فسألتني: من أين يأتون بالثعابين الصغيرة؟ فقلت لها وقد فهمت أنها تريد تلك الديدان الطويلة الحمر التي تعيش في الطين: أنا آتيك ببعضها، ثم حفرت بجانب القناة وأخرجت لها من باطن الحفرة قطعة من الطين وأريتها كيف يجول في أحشائها الدود، فابتهجت لذلك ابتهاجاً شديداً. ومن ذلك اليوم وصلني بها سبب من الأنس والعطف، فكانت كلما زارت القرية افتقدتني وطلبتني، فيرسلني إليها أهلي فخورين مسرورين، فألقاها في حديقة القصر، أو ساحة الجرن، فنعدو على مخضوضر النبات، أو نرتجح على فروع الشجر، أو نصطاد على حواف الماء، أو نستبق على ظهور الحمر، أو نتهادى على مماشي الحقول، وقدرتي على كل أولئك فوق قدرتها، وكلمتي أعلى من كلمتها؛ فأنا أشأوها في العدو، وأمهرها في الارتجاح، وأكثرها في الصيد، وأسبقها في الرهان، وأحملها في اجتياز المواحل، وآخذ بيدها في تخطي الحفر، وهي ترى ذلك كله فتعجب وتقول:

كيف تستطيعين ما لا أستطيع وأنت لا تطعمين اللحم، ولا تأكلين الفاكهة، ولا تذوقين الشكولاته؟

فأقول لها: إن الله يعطينا القوة لأنه خلقنا للعمل، ويعطيكم الثروة لأنه خلقكم للإنفاق!

وترعرعت سيدتي (جيهان) وشبت، فانقطعت عن حياة المدرسة واتصلت بحياة القرية، فكنت عندها في منزلة بين الصديقة والخادمة؛ أقضي معها آخر النهار في حديقتها، أو أول الليل في غرفتها، أطرفها بأخبار القرية، وأطربها بأغاني الريف، وأنا أراها كل يوم تفتر وتضعف وتذوي، وهي تراني كل ليلة أنشط وأقوى وأنتعش، فيشتد عجبها، وتزداد حيرتها، وتحاول أن تعرف الأسباب التي جعلتني قوية على الفاقة والحرمان والكد، وجعلتها ضعيفة على الغنى والسرف والرفاهة، فمن هذه المحاولات أنها طلبت مني أن آتيها خفية بوجبة من المش والبصل والسريس وخبز الذرة، ولم يكن في الأرض سريس

<<  <  ج:
ص:  >  >>