يومئذ، فاستبدلت به الجلوين وجئت بما طلبت، وكانت تنتظرني وحدها في كشك الحديقة فلما وضعت بين يديها ما حملت نظرت إليه نظر الهائب، وأقبلت عليه إقبال المضطر، واقتطعت من الرغيف لقمة وغمستها في المش ووضعتها في فمها، فلم تكد تذوقها حتى كرشت من وجهها، وخاوصت من عينيها، كما تفعل الفتاة الساذجة إذا أكرهها الطبيب على جرعة من الكنياك، ثم تحاملت على نفسها فساغت من الطعام بضع لقيمات، ثم تقززت عنه وقالت في اشمئزاز وتكره:
كيف تعيشون على هذا وإن مذاق بعضه لأليم وإن مذاق بعضه لتافه؟
فقلت لها: يا سيدتي، لقد أتيتك بطعامي ولم آتك بشهوتي، ولو أتيتك بشهوتي لاحتجت أيضاً معدتي.
واعتلت صحة الآنسة جيهان من سأم الراحة ومعاناة الترف، فقلبوها بين المصايف والمشاتي، ونقلوها بين الجبال والأبحر، وعرضوها على مصر وطب أوربا، حتى شبا وجهها ونضر عودها، وثاب إليها جسمها، فزوجوها من أحد الباشوات القارونيين فلم تجد عنده أكثر مما وجدت عند أبيها. نعم، وجدت لذتين لم تجدهما من قبل: متعة الزوج وفرحة الولد؛ ولكنهما لذتان شائعتان بين الإنسان والحيوان تجدها كل زوجة تحب وكل والدة تلد. وهاهي ذي قد بلغت الغاية في الثراء الضخم والجاه العريض، أبوها باشا وأخوها باشا وزوجها باشا وأبنها باشا، وكل أولئك لم يعصمها من السكر والروماتيزم والكباد والسمن والرهل والأرق، فلا تأكل إلا أقل الأكل، ولا تنام إلا أيسر النوم، ولا تتحرك إلا أثقل الحركة. وها أنا تي لا أنفك على الحال التي كنت عليها: أبي فقير وزوجي ضرير وابني الأول خفير وابني الثاني أجير. ومع ذلك لا أزال شابة على رغم السنين، قوية على رغم العمل، صحيحة على رغم النصب، سعيدة على رغم الفقر، أدير أسرتي ككل سيدة، وأصيب لذتي ككل حرة، وأرضي قسمتي ككل مسلمة، وما أظن سيدتي جيهان تكره أن أكون أنا في ثروتها وأن تكون هي في صحتي، أليس كذلك يا سيدي؟
فقلت لها وأنا معجب بمنطقها وبيانها: بلى كذلك يا أم عامر! وإن لله في ذلك حكمة، إن صحة الفقراء تعويض من ثروة الأغنياء، وإن السعادة من عند الله يمنحها من يشاء ويمنعها من يشاء!