للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

المحكم محل القديم المبعثر المتفرق، فتنسخ الملحمة الجديدة الحكايات القديمة، وتأخذ مكانها من قلوب الأمة التي تصور فعالها، وعلى مر الزمن تنفذ الملحمة من حدود المحلية والإقليمية وتشيع في أنحاء العالم المتمدين وتستحيل أثراً أدبياً عالمياً. وأشهر ملاحم هذا النوع، الألياذة والشاهنامة التي نحن بصدد الكلام عليها

والشاهنامة تسترعي اهتمام غير واحد من خاصة المتأدبين فاللغوي يطالع فيها صفحة واضحة من تاريخ اللغة الفارسية الحديثة، والاجتماعي يجد فيها عوناً على تصور المجتمع الفارسي القديم، ومعرفة أخلاق القوم وعادتهم ومواضعاتهم، والمعنى بالأساطير القديمة ينتفع بها انتفاعاً جماً في دراسة الميثولوجيا الإيرانية والمقارنة، ومؤرخ الأديان يستخلص منها صورة مجملة لعقائد الإيرانيين القدماء، والمؤرخ السياسي يرجع إليها في دراسة النظم الفارسية القديمة ويجد فيها صدى قوياً لعلاقة الفرس بمن جاورهم من الأمم وخاصة الهند والترك والعرب. والفنان الذي تستهويه بلاغة العبارة ودقة المعاني وقوة التصوير يرى في الشاهنامة مُثلاً عُليا لكل ذلك.

فالفردوسي يعرج في سماء البلاغة حتى يسامي النجم، وهو في الوقت نفسه يخاطب الناس بمألوف حديثهم ومتعارف معانيهم، ثم هو وصاف مبدع، إذا تصدى لوصف واقعة حربية أراك ميدان القتال، وجلا على عينك ما يجري فيه من كر وفر، وهجوم وتحيز، وأراك السيوف تلمع، والحراب تشرع، وأسمعك تصايح الكماة، وصهيل الخيل، وأنين الجرحى، وصور لك ظفر الغالب وهزيمة المغلوب. فإذا انتقل إلى وصف مجلس من مجالس الدعة والأنس مثل لعينك أسباب السرور ودواعيه وأدواته، ونقل إليك ما يشيع في المجلس من صفاء النفوس، واختلاط القلوب، فإذا أراد تصوير العاطفة البشرية أراك حنو الأم، وعطف الأب، وله العاشق، ووفاء الزوجة وإخلاص الصديق. لقد أدرك الفردوسي قوام الفن وملاكه، أدرك معنى الجميل ومعنى الجليل، وعرف كيف يعبر عنهما

على أن الناحية الأخلاقية من الشاهنامة هي عندي أهم نواحيها وأبعثها على التقدير العام بها. فالفردوسي لم يقصد إلى أن يكون مؤرخاً، ولا إلى إظهار بلاغته بمقدار ما قصد إلى أن يكون كتابه كتاب أدب وحكمة وتهذيب، نلحظ ذلك في الجانب التعليمي من كتابه، فالفردوسي لا يبرح واعظاً ومرشداً وهادياً، سالكاً حينا طريق الحقيقة وحينا طريق المجاز،

<<  <  ج:
ص:  >  >>