للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أذكر هذا، وأذكر رسالة محمد عليه السلام، وكيف كانت حال الإنسان لعهدها: فمصابيح الحضارة اليونانية والرومانية والفارسية قد أوشكت أن تنطفئ، وأخذ الناس يرجعون القهقري إلى غرائزهم وطباعهم؛ يتنازع العالم المعروف إذ ذلك دولتان قد استعرت بينهما نار الحرب، وتكالب الناس على المادة، فلا ترى إلا عقولاً ذاوية وقلوبا خاوية، ولذلك كانت رسالة محمد دفعاً قوياً إلى وضح النهار، وطالما ذكر القرآن الكريم العالم بهذا:

(قد جاءَكم من اللهِِ نورٌ وكتابٌ مبينٌ يهدى به اللهُ من أتَّبَع رضوانهَ سُبَلَ السلام، ويُخرِجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم).

جاء محمد عليه السلام، يحرر الإنسانية من أغلال الجهل والفساد، ينبغي لها حياة هادئة وادعة، يغمرها نور الأيمان والعلم، ويعيش فيها الناس على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، في السراء والضراء، فحارب بشدة تلك النَعرات الجاهلية الغاشمة، والعصبيات القبلية الدميمة، وأعلن أن الناس سواء، فلا يفضل إنسان ما غيره من البشر بالجنس أو الدم أو القوة، ونادى ذلك النداء الذي يشع النور من كلماته:

(الناس سواسية كأسنان المشط، وإنما يتفاضلون بالعافية).

(الناس كلهم لآدم، وآدم من تراب).

(لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى) وجاء القرآن مصدقاً لهذا حيث يقول:

(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

رأى محمد عليه السلام النفوس تغص بالجشع، والقلوب تجيش بالطمع، والأثرة تسيطر على العقول، فأستبد القوي بالضعيف لا يفكر المرء إلا بنفسه، ولو تقطعت الأرحام، وذوت صلات القربى، وأصبح بذلك الظلم والبغي والمنكر قانوناً يطبقه الغني والقوي، ويرضخ له الذليل والفقير، وما هذا لعمري سوى قانون الأدغال والغابات، فنادى الله تعالى في كتابه:

(إن الله يأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهي عن الفحشاء، والمنكر، والبغي، يعضكم لعلكم تذكرون).

نظم محمد عليه السلام العلاقات الاجتماعية على أساس التعاون الوثيق بين الأفراد،

<<  <  ج:
ص:  >  >>