إلي وهو يزودني بآخر نظرة لم أزل أراها أمامي كآخر شرارة من أصفى الأنوار التي شاهدتها في حياتي
وفي أول مايو سنة ١٩٣٧ أخبرني صديق أن أحد أصحابه استعاد السمع وهو مصاب بالصمم بوضع صفحة من الجلاتين (وهو الجلاتين المستعمل لمردات السيارات) بين أسنانه وطيها قليلاً حتى تنحدب بين الفم والصدر فيؤثر عليها اهتزاز الصوت تأثيره على ساعة الحاكي فيصل إلى طبلة الأذن الداخلية بواسطة أعصاب الفكين
بادرت بالكتابة إلى مصطفى وبت أنتظر الجواب بذاهب الصبر فوردني منه بعد يومين الكتاب الآتي، وهو مؤرخ في ٢ مايو أي قبل وفاته بأيام قليلة:
عزيزي الأستاذ فليكس فارس
سرني كتابك لأنه كتابك، وقد جربت الفائدة فإذا هي قريب مما وصفتم، غير أن الصوت يبلغ إلى الدماغ مصمتاً غير مبين كأنه لا حروف فيه، وتلك هي العلة من أولها. وسأزاول المران على هذه الطريقة، فلعل لها عاقبة إن شاء الله، ولعل فائدتها تأتي بالتدريج!
لماذا تفتر في ترجمة نيتشه فأصبحت تظهر وتختفي. . .
أما اعترافات فتى العصر فهي جيدة جداً، ولو كان مؤلفها هو المترجم لما استطاع أكثر مما استطاع المترجم الشيخ فليكس فارس
رسالتك وترجمة رؤيا في السماء قرأهما الأستاذ الفرنسي فأعجب بهما، وقد سلمت الأصول للدكتور محمد ليرسلها إلى أستاذ الآداب في جامعة ليون
وحفظك الله للمخلص
[مصطفى صادق الرافعي]
طنطا في ٢ مايو سنة ١٩٣٧
مرت السنة على وفاة الرافعي وهو - بعد أن وفى قسط جهاده وانسحب من معاكس الإظلال في هذه الحياة - لم يعد إلا صورة حفرها الحب في قلوب أهله وأصحابه، وإلا كتباً ورسائل وقصائد تتداولها الأفكار في العلام العربي، فإن أنا أتناول الكلام عنه الآن فلا أواجه الصورة المحفورة منه في أعماق القلب لأن النظر إليها يخرس بياني ولا يستنطق سريرتي إلا الكلمة المجنحة الصامتة التي أناجيه بها، بل أواجه منه التراث الأدبي الفخم