الذي أقام به لنفسه خلوداً آخر قد لا يهتم له الآن بقدر ما نهتم له نحن لأنه يشق لنا أفقاً واسعاً من آفاق الضحى في النهضة العربية الحديثة
لقد كان الرافعي في الطليعة من قادة الرأي والبيان، اختطت له فطرته العربية وثقافته العربية منهجاً لم يقتحم صعابه إلا النزر اليسير من حملة الأقلام في بلاد العرب
وقد ظهر هذا العبقري بشخصيته الفذة في حقبة من الزمن كان الأديب فيها متتلمذاً لمدرستين: إحداهما مدرسة الأدب العربي تحاول إنهاض اللغة من كبوتها وقد طالت قروناً فتحصر كل همها في تنميق العبارات وتصحيح المفردات والتملص من الأسلوب السقيم الذي طغت فيه على البيان أسجاع المتحزلقين واجتاحته الألفاظ العامية. والأخرى مدرسة الأدب الدخيل تغترف من معين الغرب أوشالاً تريقها بياناً مقلقلاً لا يمت إلى العربية الفصحى بسبب، وليس فيه من الألفاظ الصحيحة ومتانة الأسلوب ما يقوى على اقتناص روائع التفكير من بيان الأجانب
كان الرافعي في تلك الفترة يخطو خطواته الأولى بعيداً عن المدرسة الثانية متصلاً بالمدرسة الأولى بجامع اختيار الألفاظ وتنميق الأسلوب غير أنه ند عن هذه المدرسة بإرسال نظراته إلى أغوار الأدب العربي القديم غير واقف عند لامعات الأصداف الطافية على سطوحه
إن للآداب أنواعاً من الجمال لا يمكن للنفوس على اختلاف أذواقها أن تتفق على ترجيح إحداها، وليس للمتأدب المنصف، إذا هو أدرك هذه الحقيقة، أن يتعصب لذوقه فيضع في ميزانه عبقريات الأدباء بالمقابلة والترجيح
لئن سر العبقري الحقيقي أن تتناول الأقلام تحليل تفكيره وخياله وديباجته بعرضها على الفن، (بالرغم من أن الفن نفسه ليس ناموساً ولا قاعدة ولا مقياساً)، فإن هذا العبقري ليأنف أن يحشره كاتب في كفة ميزان ليضع في الكفة الأخرى عبقرياً آخر يطمح إلى الحط من قيمته وقدره
ما ضر الكاتب المتحزب لو قال إن مثله الأعلى من العبقريين يتدفق إنسانية وشعوراً دون أن ينكر هذه الصفات على أنداده بل على كل ذي قلب شاعر ورأس مفكر في هذه البلاد. . .