فعدلت عن طريقها إلينا ووقفت على رئيس فرقة الموسيقى وما بيننا وبينها إلا خطوات. ورأيتها قد هيأت في عينيها نظرة غاضبتنا بها ثم لم تلبث أن صالحتنا بأخرى.
وكأنها ألقت لرئيس الموسيقى أمراً ليتأهب أهبته لدورها ثم همت أن ترجع، ثم عادت إليه فجعلت تكلمه وعيناها إلينا، فقال صاحبنا وأعجبه ذلك من فعلها: أنها نبيلة حتى في سقوطها.
ولا أدري ماذا كانت تقول لرئيس الموسيقى، ولكن هذا الرجل لم يظهر لي وقتئذ إلا كأنه تليفون معلق.
كانت عيناها إلى صاحبها لا تنزلان عنه ولا تتحولان إلى غيره، ولا تُسارقه النظر بل تغالبه عليه مغالبة؛ ورأيته كذلك قد ثبتت عيناه عليها فخيل إلى أن هذا الوجود قد أنحصر جماله بين أربعة أعين عاشقة؛ وكانت تطارحه ويطارحها كلاماً مخبوءاً تحت هذه النظرات وقد نسيا ما حولهما وشعرا بما يشعر به كل حبيبين إذا التقيا في بعض لحظات الروح السامية: أن هذا العالم العظيم لا يعمل إلا لأثنين فقط: هو وهي.
وكان فمها الجميل لا يزال يساقط ألفاظه لرئيس الموسيقى، وكأنها تسرد له حكاية مروية أو تعارض بحافظته كلاماً تحفظه من كلام التمثيل أو الغناء؛ فهي تتحدث وعيناها مفكرتان شاخصتان، فلم ينكر الرجل هيئتها هذه؛ ولكن كيف كانت عيناها؟
لقد أرادت في البدء أن تجعل قوة نظراتها كلاماً، حتى لحسبت أن هذه النظرات الأولى تهتف من بعيد: أنت يا أنت.
ثم بدأ في عينيها فتور الظمأ: ظمأ الحب المتكبر المتمرد، لأنه حب المرأة المعشوقة، وأن له لذتين: إحداهما في أن يبقى ظمأ إلى حين. . .
ثم أرسلت الألحاظ التي تتوهج أحياناً فوق كلام المرأة الجميلة في بعض حالاتها النفسية، فتضرم في كلامها شرارة من الروح تظهر الكلام كأنه يحرق ويحترق. . .
ثم توجعت النظرات لأنها تصلها بالرجل الذي لا يشبه الرجال فلا يستوهب خضوعها ولا يشتريه؛ والرجل كل الرجل عند مثل هذه المرأة هو الذي لا يشبه الباقين ممن تعرفهم، فإذا أحبها فكأنما أحبها عذراء خَفِرةً لم تُمس، وكأنه من ذلك يصلها بماضيها وطهارتها وحيائها وما لا يمكن أن تتمثله إلا في مثل حبه.