لشد ما كان يذكرها في أيامه ولياليه!. . . فقد أنس ألواناً من وفائها الحنون، وبرها الجميل؛ حين كان يشتد عليه أذى أبيه، سهيل بن عمرو، فيدفع به إلى رمضاء مكة؛ في لهب الظهيرة واشتداد الهاجرة، مع طائفة من المستضعفين يكتوون باللظى المشبوب، ويلتوون فوق الرمل المكروب، ويذوقون أصناف العذاب الأليم، ليرتدوا عن هذه البدعة التي ابتدعها محمد، فما يزيدهم ذلك إلا إيماناً فوق إيمانهم العتيد
ويجلس إليها. . . ويلقى إليها برأسه، فتمر عليه بيديها الناعمتين، تهدهد أحزانه، وتكفكف أشجانه، وتبعث فيه العزم
ويسألها عن أبي بصير عتبة بن أسيد بن جارية، وعن أم كلثوم أخت الوليد، وعن فلانة وفلان، من جيرانه وإخوانه. . . هل ثبت الله أقدامهم، فصبروا على العذاب، وصمدوا للفتنة؛ وسكتوا على الإهانة؟!. . . ويستنطقها خبر (يثرب) والنبي؛. . . وهذا النور الذي يغالب الظلمات، ويكافح الضلالات ويخترق السحب. . . ما شأنه؟!!. . . ألم تلمح سناه في أفق مكة؟. . . ألم تر بريقه في سماء البيت الحرام؟. . . ألم يبلغ بعد هذا الوادي غير ذي الزرع؛ فينبت في حفافيه الإيمان؛ وينشر في أجوائه الرحمة؛ ويفجر من حجارته الصلدة القاسية ينابيع الخير والحكمة؟. . .
وتتحرك نفسه لهذا الأمل الخاطف يلمع في خاطره، وهذه الأخيلة الفاتنة تداعب روحه الحزين، فيهتز هزة الواثق المطمئن ويتحرك. . . فتسمع لحركته أصوات الأغلال في رجليه. . . فتذعر أخته، ويتملكها الخوف، وتخشى أباها أن تصل إلى سمعه هذه الحركة في هدأة الليل فيكشف من أمرها ما أخفته عنه وتطلب إلى أخيها أن يستقر في مكانه فإن لها معه لحديثاً؛ وإن الكلام ليتدفق في فمها فلا تعرف كيف تبدأ
وينصت أبو جندل إلى أخته، وقد أحس هذه الكلمات تتواثب على شفتيها؛ وأدرك أن وراء هذه الزيارة المفاجئة في حلكة الظلمة وامتداد الليل لأمرا جللا. . . فلعل الله جاعل له فرجا. . . ولعل السماء قد أنصتت إلى صلواته الخاشعة في ساعات النسمة الهادئة
وتلتفت أخته هنا وهناك. . . كأنها تخشى الرقباء؛ ثم تنهض إلى النافذة، وتلقي نظراتها التائهة على غرف البيت وصحن الدار، وتجلس لتحدثه في همس رفيق: