- إن مكة يا أخي لتنام منذ أسبوع في مهاد من القلق، وإنها لتتقلب على الشوك. . . فما تدري ما هي صائرة إليه. . . لقد نمى إليها أن محمدا غادر المدينة (وأنه استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه)؛ وأنه سار نحوها في سبعمائة رجل. . . يقول إنه يريد زيارة البيت. . . فما تصدقه قريش في دعواه
وتنبسط أسارير أبي جندل. . . وتملأ شفتيه ابتسامة عريضة وتتواثب الآمال في صدره؛ وتتراءى له هذه الجموع في طريقها إلى مكة، ويهم ينادي:(الله أكبر). . . ولكن أخته لا تلبث أن تضع يدها على فيه، تسأله أن يكتم الفرحة الطافرة، ويكبت الصيحة الظافرة؛ ويخفي هذا المرح الشديد. . . فما يرضيه أن يسلط عليها سهيل أبوه سوط العذاب
ويتظاهر أبو جندل بالخضوع للرجاء، ويتمنى عليها بقية الحديث، ويسألها:
- وماذا فعلت قريش يا أختاه؟
- لقد خرجت حين سمعت بمسيره بالعوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا يدخلها عليهم أبداً، فلما رأوا أن النبي قد خالفهم عن طريقهم رجعوا منذ أيام إلى مكة، واستقبلهم الناس في فتور، وما أدري ماذا صارت إليه خيل قريش يا أخي. . . لقد كانت زاهية فخورة، تقرأ في وجهها النصر، فإذا هي اليوم كالحة كابية، ليس لها ذاك الزهو، ولا تلك الإشراقة النيرة. . . ترى ألست معي في أن ذلك هو أول الانحلال ومبدأ التراجع، وطلائع الفتح المبين الذي نترقبه من بعيد؟!
- بلى يا أختاه. . . لينصرن الله محمداً ودينه. . . ثم ماذا كان؟
- لقد أوفدت قريش رجالها إلى النبي تستوضح نياته، وتتفهم غاياته، وتسبر أغواره. . . ولقد رجع هؤلاء الرجال يلهجون بذكر محمد ويقولون إنه (كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وأنهم لم يرو ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه) ويتحدثون عنه أبرع الأحاديث، ويكبرون حجته، ويخشون قوته، ويعجبون ببيانه. . . فلقد قال لبديل إبن ورقاء حين جاءه مع وفد من خزاعة:(انه لم يأت يريد حرباً وإنما جاء زائراً للبيت ومعظماً لحرمته) وأقبلت علينا خزاعة تقول: (يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد. إن محمداً لم يأت لقتال)
ولكنك تعلم عزة قريش، وهذه العصبية التي تعصف في نفسها، وهذه الحمية التي تتأجج