للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

(كالراديو) لصوتين: صوت الدنانير وصوت الجماهير، فمر في البلاد يرسم على الهواء علامات استفهام، وانْصَفَقَ عنه الناس وأهملوه، وكان يسير في دائرة الصمت التي مركزها أبو الهول، فبدأ وظل يبدأ حتى انتهى وما زال يبدأ. . . وساح في البلاد سياحة طويلة وكأنه لم يسافر إلا من شفَة (أبو الهول) السُّفلى إلى شفته العُليا.

قال صاحب السر: وجاء اللورد لمقابلة الباشا، فمرَّ عليَّ مرور كتابٍ مقفل لا أعرف منه إلا العنوان؛ غير أنه رجل بمقدار الرجل الذي يخالف أمة كاملة تكاد تحسبه مطوياً على زوبعة، وترى له قوتين تحسُّ من أثرهما الرهبة والإعجاب، وإذا تأملته قلت إن اللطف والظرف أضعف شمائله، وإن الدهاء والحيلة أقوى مواهبه.

فلما لقيت الباشا من الغد سألني كيف رأيت اللورد ملنر؟ فقلت: والله يا باشا إنه كالضرورة ما يتمناها أحد ولكنها تجيء.

فضحك الباشا وقال: يا ليت لنا نحن الشرقيين ضرورة تصنع ما صنع اللورد؛ إنه كشف لنا في ذات أنفسنا عن حقيقة من أسمى الحقائق السياسية، وهي أن الشعب الذي يصر ولا يزال يصر، يجعل الإغراء لا يغري والخوف لا يخيف.

ويا ليت الأمم الشرقية تتعلم هذا الصمت السياسي عن مجاوبة الكلمة الاستعمارية أحياناً، فإن صمتَ الأمة المصرية عن جواب (ملنر) كان معناه أن قدرة الأمة هي المتكلمة كلامها بهذا الصمت، تعلن للعالم أن الواجب الشعبي قد وضع قفله على كل فم.

ولقد فسر اللورد هذا السكوت بتفسيره السياسي فأدرك منه أن في الشعب أنفة وحمية وقوة، وأن حساب الضمير الوطني أصبح لهذه الأفئدة كالحساب الإلهي للنفوس المؤمنة، كلاهما مستعلِنٌ يُخافُ ويُتقى، وكلاهما له كلمة محرمة.

أية معجزة هذه التي جعلت كلمة الأجنبي تتخذ في أذهان أمة كاملة شكل قائلها، فاجتمعت لها الجلود على معنى الرفض، وأصبح كلُّ فرد يعرف محله من الكل، وخضعت الطبائع بجملتها لقانون العزة القومية الذي يلزمها ألا تخضع للأجنبي؟

إن الأمم بعض مسائل نفسية كهذه المسألة؛ فلو أن لنا خمسة دروس سياسية مختلفة كدرس (ملنر) لكانت لنا في الإيمان الوطني كالصلوات الخمس.

والآن تعلمت الأمة أن الشعب العزيز هو الذي ينظر في فض مشاكله إلى الحل وإلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>