للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وإنني إذ أرسم صورة لأدب الشام، لا أقول بالإقليمية العصبية ولا أغلو في الرأي والتصوير، وإنما أقصد إلى تلك المزايا التي اختص الله بها كل بلد من الأرض، فجعل فيها البيئة ذات خلق وتكوين، تؤثر في سكانها وتطبع المرء بمزاجها، فتجعله حسب أطوارها ومقتضاها

من خطرات هذا الرأي ما صوره الشاعر ألفريد دوموسيه، فان له رواية سماها (الكأس والشفاه) وصف فيها رجلاً من سكان التيرول يقول الشعر ويروي سيرته، فيعرضه الشاعر بمعارض أولئك الأشداء الذين سكنوا في الأرض القاسية، فعلوا قمم الجبال على صهوات خيولهم، ولم تتطامن أخلاقهم كأولئك الذين سهلوا إذ سكنوا في السهول

وما ينكر المنصف أن الأدب كالمخلوق الحي ينمو وينضج وتسري في أعراقه دماء يطلب العارفون فيها الأصالة والنشأة التي تخضع لمنازع ثقافية وأحداث اجتماعية وسياسية

فأدب الشام الحديث هو من هذا القبيل أدب عربي الوجه والروح وقد صقله الفن والتطور وظهرت عليه مغارس الوطن، ولم يولد هذا الأدب ولادة ارتجال، وإنما فتحت الشام العيون بعد الحرب الماضية على حركة فكرية جديدة ويقظة ثقافية منها مثيلاً، وكانت مثل سجين لم يجد أرفه لنفسه وأقرب إلى قلبه من أدب المصريين فتأثرت الشام نهضتهم ومضت على غرارهم في نشأتها الحديثة. وكم راجت فيها سوق الأدب لقصيدة قالها شوقي أو حافظ، ولكتاب ألفه المنفلوطي أو الرافعي، وكان في تلك الآونة نفر من الشاميين متنورين لكل نهضة، بعضهم عرف الغرب وورد النحل على الأزاهير، ثم صدر عنها فعاد إلى الشام ينشئ المجلات وينشر الصحف ويحاضر في المجامع والندوات داعياً إلى نشر الثقافة والأدب. وأسس المجمع العلمي العربي في دمشق على الفصحى وحفاظ أمجادها وذخائرها فجمع بين لغوي مدقق وعالم فيلسوف ومؤرخ محقق وشاعر أديب، ورفدت أعماله مجلة ذاعت في أقطار العرب. وكان من السوريين شعراء قد استيقظوا بعد الحرب الغابرة على صيحات البعث والتحرر والتجديد فأخذوا بشيء من القصيدة كأنه الينبوع يفيض حيناً وينضب حيناً، وفيهم من حذا وجرير والأخطل حتى قلدهما في حلية القريض، ومنهم من أدمن الإلمام بالمتنبي حتى سرى في بيانه روح أبى الطيب وعنجهيته. وكما كان في كل بلد أدب للشيوخ وأدب للشباب فكذلك حدث في أدب الشام، وليس بين الفريقين تنابذ

<<  <  ج:
ص:  >  >>